مع استمرار الأزمة الروسية الأوكرانية، والتي أدت إلى ارتفاع أسعار النفط عالمياً، إضافة إلى ارتفاع أسعار معظم السلع وخاصة السلع الغذائية الأساسية، ولعل الاقتصاد الأمريكي من أكثر الاقتصادات المتأثرة من هذه الأزمة، حيث سجل الضخم خلال الأشهر الماضية رقماً قياسياً لم يصل إليه منذ 40 سنة، فقد بلغت نسبة التضخم السنوي في مايو 8.6%، بحسب مؤشر أسعار المستهلكين الذي أصدرته وزارة العمل الأمريكية، وقد اقترنت الأزمة الحالية بنقص في اليد العاملة، في وقت أدت فيه المساعدات المالية الحكومية السخية إلى تحفيز الطلب، وزيادة السيولة في الاقتصاد الأمريكي.
وللسيطرة على التضخم فقد قام البنك الاحتياطي الفيدرالي برفع سعر الفائدة في اجتماعه بالأمس بثلاث أرباع نقطة مئوية، وسبق أن رفع البنك سعر الفائدة خلال الأشهر الماضية مرتين بربع نقطة مئوية ثم بنصف نقطة مئوية، ليصل إلى 1.75%.
ربما يسأل القارئ نفسه نحن نعيش في قارة بعيدة عن أمريك فلماذا نستخدم عملتها؟ وكيف ستتأثر حياتنا وحياة المواطنين في دول العالم برفع سعر الفائدة في أمريكا؟
بداية الدولار وغيره من العملات هي سلع يتحدد سعرها وفق قانون العرض والطلب، والدولار الأمريكي هو العملة التي تلقى قبولاً عالمياً في المعاملات الدولية، بعد اتفاقية بريتون وودز منذ العام 1844م وحتى العام 1971م كان الدولار مغطى بالذهب، ولكن بعد أزمة النفط العالمية في السبعينات تخلت أمريكا عن غطاء الدولار بالذهب تدريجياً، وقد ساند الدولار في الاقتصاد العالمي ربطه بالنفط وتجارة الأسلحة ومنتجات التكنولوجيا، كما يستمد قوته من الهيمنة الأمريكية على العالم، وبالتالي تحتاج دول العالم المختلفة لاقتناء الدولار من أجل تمويل وارداتها وسداد ديونها والسياحة وغيرها من المعاملات...
وفق ما صرح به رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي فإن استخدام البنك لأدوات السياسة النقدية من خلال رفع سعر الفائدة بشكل تدريجي لتصل إلى 3.5% نهاية هذا العام وإلى 4% في العام 2023، سيؤدي وفق التوقعات إلى ارتفاع نسبة البطالة إلى 4.1%، وتراجع التضخم إلى 2% في العام 2024، وقد طمأن رئيس البنك الأمريكيين بأن التضخم الحالي مؤقت ويرتبط بآثار الأزمة الروسية الأوكرانية، وأن الطلب في الاقتصاد الأمريكي ما يزال قوى في الاقتصاد كما سيستمر النمو الاقتصادي ضمن معدلات نمو مقبولة.
حديث رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي ربما يكون له آثاراً إيجابية على الاقتصاد الأمريكي في الأجل القصير، وتمت السيطرة على أسعار النفط والغذاء وعادت سلاسل التوريد إلى العمل، وجاءت نتائج السياسة النقدية المشددة الحالية وفق توقعات البنك، وإلا فإن الرفع المتتالي لسعر الفائدة سيكون له نتائج كارثية على الاقتصاد الأمريكي وسيدفع الاقتصاد الأمريكي نحو الركود التضخمي، ويدفع بعض المؤسسات نحو الإفلاس وستزيد معدلات البطالة.
أما على صعيد الاقتصاد العالمي فسيكون لرفع سعر الفائدة في أمريكا انعكاسات خطيرة، حيث ستتحرك الأموال الساخنة من الدول الناشئة متجهة إلى السوق الأمريكي، وهذا سيؤثر سلباً على العملات المحلية والبورصات في هذه الدول، وسيدفعها إلى إتخاذ سياسات نقدية متشددة ترفع بموجبها سعر الفائدة بمعدلات أعلى من سعر الفائدة في أمريكا حفاضاً على أسعار عملاتها المحلية أمام ظاهرة الدولرة، وهذا الأمر سيزيد كلفة الاقتراض الخارجي، وسيدفع بإتجاه أزمة مديونية عالمية ربما تؤدي إلى إعلان بعض الدول عن إفلاسها وعدم قدرتها على الوفاء بإلتزاماتها، وإن استمرار رفع أسعار الفائدة سيكون لها آثاراً سلبية على مؤشرات الاقتصاد الكلية العالمية وفي مقدمتها انخفاض الطلب العالمي، وزيادة معدلات البطالة، وتباطؤ النمو وربما الدخول في أزمة اقتصادية عالمية جديدة.
أما على الصعيد المحلي فإن رفع سعر الفائدة في أمريكا سيزيد من قوة الدولار أمام الشيكل، وبالتالي زيادة كلفة الواردات مما سيتسبب بموجات جديدة من ارتفاع الأسعار على أسعار السلع المستوردة خصوصاً في الاقتصاد الفلسطيني والذي يعتمد على الاستيراد لمعظم السلع التي يستهلكها، وسيستفيد من هذا الرفع من يتلقون رواتبهم بالدولار الأمريكي عند تحويله إلى الشيكل، أما أكثر المتضررين هم الذين يتلقون رواتبهم بالشيكل وعليهم قروض بالدولار لأن تكلفة القرض ستصبح أكبر عليهم، وسيكون هناك آثاراً إيجابية محدودة على ميزانية السلطة الفلسطينية في حال استمر تدفق المساعدات الدولية بالعملات الأجنبية.
وختاماً ينصح المحللون الاقتصاديون في الظروف الحالية باقتناء الذهب كملاذ آمن للحفاظ على قيمة المدخرات، كما ينصحون بالابتعاد عن الاستثمار في الأصول ذات المخاطر العالية، والتي تتضمن العملات الرقمية التي تتسم بتقلبات شديدة في أسعارها، ويطلبون من المستثمرين الحذر عند الاستثمار في أسواق الأسهم والسندات.