برزت ظاهرة المضاربة على الدولار في مصر منذ قرار البنك المركزي المصري خفض قيمة العملة المحلية 15% بسبب تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية، وإعلان انتهاء وصاية المركزي على الجنيه، الذي بدأ منذ ذلك الحين مسلسل السقوط الحر.
وقفز الدولار الأمريكي أمام الجنيه المصري بين ليلة وضحاها من 15.60 جنيها لكل دولار إلى أكثر من 18 جنيها في البنوك المحلية، ولكن السوق الموازي أو ما يعرف بالسوق السوداء كان لها رأي آخر؛ حيث كان الرهان على قوة الدولار واستمرار تراجع الجنيه واضحا، ونشطت التجارة والمضاربة على الدولار.
ونهاية الشهر الماضي توصلت مصر وصندوق النقد الدولي إلى اتفاق تمويل جديد محدود بقيمة 3 مليارات جنيه لمدة 46 شهرا بعد سويعات من إعلان البنك المركزي المصري رفع أسعار الفائدة 200 نقطة أساس (2%)، واعتماد آلية سعر صرف مرن للجنيه بناء على العرض والطلب.
ومنذ ذلك الوقت واصل الجنيه المصري مسلسل السقوط، وزادت المضاربات على المزيد من التراجع أمام الدولار، ورغم بدء تعاملات البنوك على 23 جنيها للدولار من مستوى 19.7 جنيها، إلا أنه انخفض مجددا إلى دون 24 لكل دولار تحت وطأة المضاربة، وليس العرض والطلب فقط بحسب خبراء ومحللين.
تراجع قبضة الدولة
ويقول متعاملون في السوق السوداء لـ"عربي21": "الطلب على الدولار لم يتوقف سواء من التجار أو المواطنين العاديين، الذين بدؤوا يشعرون بالقلق على مدخراتهم بالعملة المحلية، خاصة مع فقدان الشعور بالأمان من تقلبات سعر الصرف".
وأكدوا في تصريحات متفرقة، أن "قبضة السلطة على تداول العملة خارج إطار المصارف الشرعية، كانت أقل بكثير عما كانت عليه بعد تعويم 2016، حيث اختفت ظاهرة السوق السوداء بعد حملة أمنية شملت غالبية محلات الصرافة".
وأشاروا إلى أن "حجم التدفقات النقدية على مصر ساعد بشكل سريع وقوي على عودة الجنيه إلى التماسك أمام الدولار، وبمرور الوقت، بدأ يرتفع من مستوى 20 جنيها للدولار إلى 16 جنيها للدولار، ولكن مع اندلاع الحرب (بين روسيا وأوكرانيا) انقلبت الموازين".
بنوك الإمارات
مع بدء تعويم الجنيه المصري أمام الدولار نهاية تشرين الأول/ أكتوبر، تصدرت البنوك الإماراتية في مصر (خمسة بنوك) البنوك المحلية في تقديم أعلى سعر للدولار، ما أثار تساؤلات حول حقيقة مضاربة البنوك الإماراتية بالدولار.
وهناك 5 بنوك إماراتية تعمل في مصر، هي "أبوظبي الأول"، و"أبوظبي التجاري"، و"الإمارات دبي الوطني"، و"أبوظبي الإسلامي"، و"بنك المشرق"، لتصبح الإمارات صاحبة العدد الأكبر للبنوك الأجنبية بالقطاع المصرفي المصري.
ومطلع الشهر الجاري، أعلن "بنك أبوظبي الأول مصر"، إتمام الاندماج الكامل للعمليات والأنظمة مع وحدة بنك عودة (اللبناني) في مصر.
ولم يواكب التعويم الجديد للجنيه في مصر أي تحسن في التدفقات المالية من الخارج على غرار التعويم قبل 6 سنوات، وظهر ذلك جليا في ارتفاع الاحتياطي النقدي الأجنبي، نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي قدره 213 مليون دولار فقط، ليسجل 33.4 مليار دولار مقارنة بأكثر من 4 مليارات دولار عام 2016.
وتعد هذه الزيادة أقل بفارق كبير عن التدفقات في الاحتياطي الأجنبي، التي تلت مباشرة تعويم سعر الصرف وعقد اتفاق قرض مع صندوق النقد عام 2016، حيث قفز آنذاك بأكثر من أربع مليارات دولار بنهاية تشرين الثاني/نوفمبر، الشهر الذي صدر فيه قرار التعويم.
المضاربة على الدولار
وأعرب خبير أسواق المال، وائل النحاس، عن مخاوفه من تحول الاستثمار في مصر إلى استعمار، وقال: "من الواضح أن هناك هيمنة من قبل بنوك الإمارات في مصر على تقديم أعلى سعر للدولار منذ بدء خفض العملة المحلية إلى مستوى كبير، خاصة في آذار/مارس الماضي، وما تلاه من قرارات تتعلق بالسماح بخفض قيمته أكثر وأكثر".
وتساءل في تصريحات لـ"عربي21: "بعد سيطرة الإمارات على عدد من الأصول في البلاد، هل تقوم بشراء الدولار بأعلى سعر لتحقيق مآرب خاصة، أم تحويل أرباح شركاتها للخارج، نريد أن نعرف السبب وراء ذلك، وهل هناك نية لشراء الدولار ثم إعادة بيعه للدولة مرة أخرى سواء عبر قروض أو غيره".
وأشار إلى أن "استمرار المضاربة على الدولار يؤدي إلى انخفاض أكبر في قيمة الجنيه، وفي العقود الآجلة سوف يصل سعر الدولار أمام الجنيه إلى قرابة 30 جنيها إذا استمرت المضاربة على هذه الوتيرة، ومن المعروف أن بنوك الإمارات هي من أكثر البنوك في إقراض الدولة بالعملة الأجنبية وإصدار السندات".
وتستحوذ البنوك الإماراتية على إصدار الصكوك السيادية المصرية، وترتيب القروض، وتوفيرها، وفي شباط/ فبراير الماضي هيمنت ثلاثة بنوك إماراتية من بين تحالف ضم 6 بنوك على طرح أول صكوك إسلامية لمصر.
واختارت مصر حينها ستة بنوك لإدارة الطرح الأول من الصكوك السيادية، البالغة قيمتها ملياري دولار، خلال الربع الثاني من العام الجاري، والبنوك هي إتش إس بي سي، وسيتي جروب، ومصرف أبوظبي الإسلامي، وكريدي أجريكول، وبنك الإمارات دبي الوطني، وبنك أبوظبي الأول.
الجنيه المصري إلى أين؟
من جهته؛ قال المستشار السياسي والاقتصادي الدولي المصري، حسام الشاذلي: "لا شك أن الضربة الجديدة التي تلقاها الجنيه المصري أمام الدولار، تفتح أبوابا لأرباح عالية جدا أمام هؤلاء الذين يمكنهم السيطرة على سوق الدولار في مصر، خاصة أن هذا يأتي بعد أشهر طويلة من عدم توفير الدولار، ووجود معدل للطلب عال جدا، سواء في السوق الرسمي أو الموازي؛ فهناك العديد من المصانع التي توقفت عن العمل أو كادت أن تتوقف، بسبب عدم قدرتها علي توفير الدولار المطلوب لدفع رسوم شركات الشحن والإجراءات، أضف إلى ذلك المستوردين ورجال الأعمال وغيرهم كثيرين".
مضيفا لـ"عربي21": "ولذلك؛ فإن البنوك الإماراتية والمعروفة بسياستها الانتهازية في أسواق العملة والسيولة، ستستفيد كثيرا من التحكم بسوق الدولار والمضاربة فيه داخل مصر، ولكن هذه السياسة ستنعكس مرة أخرى بالسلب على الاقتصاد المصري المترنح، الذي لن يفيده قرض صندوق النقد عندما يأتي الأمر لتحرير سعر الصرف".
وتابع: "مبلغ الثلاثة مليارات هو مبلغ صغير جدا، ودفع المبلغ مرهون بأقساط متعددة وبإشراف ممن عرفهم تعاقد القرض بالشركاء الإقليمين؛ كما أن قرض الخمسة مليارات الأخرى الذي يأتي من مصادر غير معروفة كما عرفها البنك المركزي المصري، وعلقت عليها وكالة بلومبرغ يثير تساؤلات متعددة حول من الذي سيتحكم في سوق العملة في مصر مستقبلا، وإلى أين سيصل الجنيه المصري؟".
واختتم الشاذلي حديثه بالقول: "ولذلك، فالمضاربة على الدولار في مصر ستمثل مصدرا لأرباح عالية جدا للبنوك الإماراتية التي تطرح أعلى سعر، وستؤثر سلبا على الاقتصاد المصري، الذي سيتم بيع الدولار الشحيح فيه مستقبلا بأسعار عالية جدا".