رصف مدرّس اللغة الإنجليزية طارق العنابي مقاعد أخرجها من مخزن مدرسة تحوّلت مركزًا لإيواء النازحين في قطاع غزة، وجلس إليها أطفال يحاولون معه استعادة بعضٍ من حياة طبيعية خسروها منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي.
شكّل الأطفال حلقة دائرية حول العنابي الذي اشترى طباشير وممحاة وسبّورات بعدما جمع الأموال من متبرعين، في باحة المدرسة التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في مدينة رفح جنوب قطاع غزة.
في درسهم الأول، طلب الاستاذ البالغ 25 عاما من الأطفال، وهم في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، كتابة جمل مثل "أنا أحب فلسطين" باللغة الإنجليزية.
انقلبت حياة العنابي وهؤلاء الأطفال رأسا على عقب بدء العدوان الإسرائيلي، الذي أسفر عن استشهاد أكثر من 15 ألف مواطن، بينهم أكثر من 6 آلاف طفل، في حصيلة غير نهائية، إلى جانب دمار واسع في البنية التحتية والمنشآت السكنية والتجارية والمدارس والجامعات والمستشفيات، جراء الغارات التي شنها طيران الاحتلال ومدفعيته وزوارقه الحربية على مختلف أنحاء القطاع المحاصر.
ومنذ 24 تشرين الثاني/نوفمبر، هدأ دوي القصف الإسرائيلي مع بدء سريان هدنة مؤقتة، ربما تتوقف صباح الغد الجمعة، في حال فشلت الجهود لتمديدها أو الوصول إلى وقف كامل للعدوان.
وأدى العدوان الإسرائيلي إلى توقف المدارس وانقطاع الطلاب عن التعليم. وأصبحت المرافق التربوية مراكز مؤقتة لإيواء عشرات الآلاف من الفلسطينيين، من نحو 1,7 مليون شخص نزحوا قسرا عن منازلهم، خصوصا في شمال غزة.
وتشير المعطيات الرسمية إلى أن أكثر من 300 ألف أسرة في القطاع تضررت منازلها وباتت دون مأوى، ولجأت للمدارس والمستشفيات والكنائس للاحتماء من شدة القصف، علما أن قوات الاحتلال ارتكبت عدة مجازر بقصفها لمدارس الإيواء والمستشفيات وحتى الكنائس والمساجد.
قبل بدء العدوان، كان العنابي أستاذا للغة الإنجليزية في مدرسة "الحرية" التابعة للأونروا في حي الزيتون بجنوب شرق قطاع غزة. وخلال الهدنة المؤقتة، قرر العودة إلى التدريس.
ويقول الأستاذ والذي كان يرتدي سروالا من الجينز وسترة رمادية من الصوف، لوكالة الأنباء الفرنسية، إن مبادرته شخصية وفردية، مؤكدا أن "التعليم في زمن الحرب هو جزء من تحدي مواجهتها".
ويضيف: "نأمل أن نساعدهم (الطلاب) بأن يوصلوا صوتهم إلى العالم".
ويتابع: "نوفر للتلاميذ سبورات خشبية وممحاة ونحاول أن ندخل البهجة والسرور إلى هؤلاء الأطفال وألا ينقطعوا عن الدراسة".
يقدم الأستاذ دروسه على فترتين، في الصباح وبعد الظهر، ويقول إنه يحاول جلب المزيد من المعلمين لمساعدته وبالتالي توسيع مبادرته التي لاقت إقبالا من الأهالي والطلبة الذين باتوا نازحين في هذه المدرسة.
وتقول ليان (10 سنوات) التي ارتدت ملابس باللونين الرمادي والزهري "عمو طارق يدرسنا الإنجليزية وعندما أكبر أريد أن أصبح معلمة لغة إنجليزية".
وتضيف "جئت من (مدينة) غزة لأن الاحتلال قصف بيتنا في شارع العيون في منطقة النصر. (بتنا) نازحين ننام في هذه المدرسة".
ودفع العدوان النازحين إلى افتراش الغرف الصفية في المدارس والممرات التي باتت تشهد تكدسا لهؤلاء مع دخول فصل الشتاء والأجواء الباردة.
ويقطن قطاع غزة 2,4 مليون نسمة أكثر من نصفهم دون الخامسة عشرة من العمر، وفق أرقام الأمم المتحدة. وفي القطاع الذي تحاصره إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، منذ 2007، يعيش 81,5 بالمئة من السكان وسط فقر مدقع، وتبلغ البطالة 46,6 في المئة.
وأدت الغارات الإسرائيلية إلى تدمير 266 مدرسة بشكل جزئي، فيما أصبحت 67 مدرسة غير صالحة للاستخدام.
وتحولت غالبية المدارس إلى مراكز لايواء النازحين وبالتالي تعطلت العملية التعليمية، ما حرم مئات آلاف الأطفال من حقهم في التعليم.
وأفادت وزارة التربية والتعليم في بيان أصدرته لمناسبة اليوم العالمي للطفل، مؤخرا، بأن ما ما يزيد على 3 آلاف طالب، استُشهدوا منذ بدء عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
ودعت "التربية" دول العالم ومؤسساته إلى حماية حق أطفال فلسطين وطلبة المدارس في الحياة وفي التعليم، والوقوف في وجه الاحتلال والممارسات القمعية لجيشه ومستعمريه عبر مسلسل استهداف متواصل للأطفال، مؤكدة الحق الطبيعي لأطفالنا في الحياة الكريمة والتعليم الآمن والمستقر.
وطالبت كل المنظمات والمؤسسات المدافعة عن الطفولة والحق في التعليم بتحمل مسؤولياتها في سياق اختصاصها، ولجم الانتهاكات المتصاعدة، ووقف الجرائم التي يقترفها الاحتلال بحق الأطفال والطلبة والكوادر التربوية في المناطق كافة، والتدخل العاجل والفوري لوقف هذا العدوان.