نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالا تحليليا لأستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة غرب أستراليا، فيليكس بال، كشف فيه ملامح شبكة واسعة ومعقدة تقف خلف صعود اليمين الهندوسي المتطرف في الهند، وتقودها منظمة “راشتريا سوايامسيفاك سانغ”، التي تعد اليوم واحدة من أكثر الحركات اليمينية تطرفا في العالم.
مجمع هادئ يخفي مشروعا أيديولوجيا ضخما
على بعد ساعة بالسيارة شمال مدينة مومباي، يقع مجمع يعرف باسم “كيشاف سرشتي” – ويعني الاسم بشكل فضفاض “إبداع كيشاف” – وسط تلال خضراء منخفضة ومزارع صغيرة. عند مدخل المجمع، ينتصب قوس كبير تعلوه صورة طويلة لرجل ذي شارب كثيف وسترة برتقالية، هو كيشاف باليرام هيدغوار، مؤسس منظمة “راشتريا سوايامسيفاك سانغ”.
ويشير فيليكس بال إلى أن هيدغوار أسس منظمة “راشتريا سوايامسيفاك سانغ” عام 1925، كصالة تدريب شبه عسكرية لفنون الدفاع عن النفس، موجهة إلى شباب هندوس غاضبين، في سياق مخاوف عميقة لدى النخبة القومية الهندوسية من “الانقسام الداخلي” داخل المجتمع الهندوسي.
من صالة رياضية إلى أخطر حاضنة لليمين الهندوسي
انبثق مشروع “راشتريا سوايامسيفاك سانغ” من اعتقاد راسخ لدى مؤسسها وأتباعه بأن الأقلية المسلمة في الهند تشكل تهديدا وجوديا للأغلبية الهندوسية، وهو اعتقاد ظل حاضرا بقوة على مدار قرن كامل، ولا يزال يشكل حجر الأساس في خطاب اليمين الهندوسي المتطرف.
وخلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، انتشرت المنظمة بسرعة في مختلف أنحاء الهند، قبل أن تتحول تدريجيا إلى ما يصفه بال بأنه “أكبر حركة يمينية متطرفة في العالم”، تعمل في الغالب بعيدا عن الأضواء، وتحيط نفسها بدرجة عالية من السرية.
عنف جماعي وإعادة كتابة التاريخ
تواجه منظمة “راشتريا سوايامسيفاك سانغ” اتهامات واسعة بالتواطؤ في أعمال عنف جماعي ضد الأقليات الدينية، لا سيما المسلمين والمسيحيين، كما تنتقد بشدة لمحاولاتها إعادة كتابة التاريخ الهندي، عبر تشويه صورة الحكم الإسلامي في العصور الوسطى، وتقديم سردية قومية تقوم على تفوق الهندوس.
وتربط المنظمة علاقات وثيقة بحزب بهاراتيا جاناتا اليميني، الذي يحكم الهند منذ أكثر من عقد، وكان رئيس الوزراء ناريندرا مودي نفسه عضوا في اللجنة التنفيذية للمنظمة.
شبكة دولية عابرة للحدود
ويكشف بال أن فريقا بحثيا كان جزءا منه أمضى ست سنوات في رسم خريطة شبكة عالمية من المنظمات المرتبطة “راشتريا سوايامسيفاك سانغ” في نحو 40 دولة. ونشرت نتائج هذا البحث هذا الشهر في مجلة ذا كارافان الهندية.
وأظهر البحث أن منظمة “راشتريا سوايامسيفاك سانغ” تحتل موقعا مركزيا في شبكة دولية من المدارس، والجمعيات الخيرية، والمعابد، ومراكز الأبحاث، تعمل بتنسيق محكم لترسيخ القومية الهندوسية في نسيج الحياة اليومية، سواء داخل الهند أو في أوساط الجاليات الهندية في الخارج.
مجتمع مدني مدار من الأعلى إلى الأسفل
ويؤكد بال أن هذا البحث يقدم فهما أعمق للقوى الاجتماعية التي مكنت اليمين الهندوسي المتطرف من الهيمنة السياسية، كما يفسر كيف تنجح حركات اليمين المتطرف عالميا في التغلغل داخل مؤسسات المجتمع اليومية للوصول إلى السلطة.
وخلص الباحثون إلى أن التعبئة اليمينية المتطرفة ليست عفوية أو حتمية، ولا مجرد رد فعل على القلق الاقتصادي أو الاجتماعي، بل تنبثق – في الحالة الهندية – من شبكة مجتمع مدني مصممة بعناية، تدار من الأعلى إلى الأسفل، خلافا لادعاء “راشتريا سوايامسيفاك سانغ” بأنها حركة شعبية تنطلق من القاعدة.
كيشاف سرشتي.. الواجهة الناعمة للمشروع
عندما زار بال مجمع “كيشاف سرشتي” عام 2024، وجد مشهدا ريفيا هادئا، بعيدا تماما عن الصورة النمطية لليمين المتطرف. لم يشاهد ميليشيات بزي عسكري أو مسيرات صاخبة، بل مباني بسيطة: مركز أبحاث زراعية، دار مسنين، محمية أبقار، مدرسة، معبد، ومركز أبحاث للأعشاب الطبية.
ويشير إلى أن هذه المؤسسات تجسد الطريقة التي بنت بها “راشتريا سوايامسيفاك سانغ” شبكة ضخمة من منظمات المجتمع المدني، تعمل كأذرع ناعمة للمشروع القومي الهندوسي.
أكثر من 2500 منظمة
وبعد دراسة موسعة لمنشورات “راشتريا سوايامسيفاك سانغ” والمنظمات التابعة لها، حدد الباحثون أكثر من 2500 منظمة مرتبطة بها. وعلى مدار عامين من المشاورات مع أكاديميين وصحفيين ونشطاء، تم قياس مستوى الارتباط باستخدام 34 معيارا، منها وجود أعضاء معروفين بانتمائهم للمنظمة، أو عرض صور قادتها في المكاتب.
ولم يعثر الفريق على مئات الجماعات العنيفة، وإن وجد بعضها، لكن الغالبية كانت منظمات تبدو مدنية وخدمية.
من بنوك الدم إلى بطولات الكريكيت
شملت هذه الشبكة بنوك دم، ودور نشر، ومدارس يوغا، وجامعات خاصة، ومراكز تدريب مهني، وحتى نقابة مصنعي السيجار. كما رصد الباحثون بطولة كريكيت في الولايات المتحدة، ورحلة حج إلى معبد أنغكور وات في كمبوديا، وخط مساعدة هاتفيا للمهاجرين في أستراليا.
وتوضح الدراسة أن “راشتريا سوايامسيفاك سانغ” لم تعتبر يوما أن هدفها الأساسي هو الفوز بالانتخابات، رغم أن ذلك تحقق خلال العقد الأخير. فصناديق الاقتراع كانت بالنسبة لها وسيلة، لا غاية.
الهدف الحقيقي، بحسب بال، هو إعادة تشكيل المجتمع الهندي على صورة تكرس هيمنة الطبقة الهندوسية المهيمنة كمبدأ ناظم. وحتى في حال خسارة حزب بهاراتيا جاناتا الانتخابات، فإن منظمة “سانغ” – الاسم غير الرسمي لشبكة “راشتريا سوايامسيفاك سانغ” – ستبقى قائمة.
تجنيد ناعم عبر التعليم والرعاية
ومن أخطر ما كشفه البحث، وجود أكثر من 400 نزل تقدم خدمات الإيواء والتعليم لشباب مهمشين، خاصة من مجتمعات السكان الأصليين “أديفاسي”. ورغم أن هذه النزل لا تعلن صراحة تبنيها لأيديولوجيا تفوق الهندوس، فإن كثيرا من طلابها ينتهي بهم المطاف إلى اعتناق أفكار دينية وسياسية متطرفة، ويتم إعدادهم ككوادر لخدمة المشروع القومي الهندوسي.
ويخلص بال إلى أن أعمال العنف اليمينية المتطرفة، والحملات الانتخابية التحريضية، ليست سوى “الطرف الحاد لعصا طويلة”، يمثل جسدها الحقيقي شبكة المجتمع المدني الواسعة التي بنتها “راشتريا سوايامسيفاك سانغ” على مدار قرن.
وقد أدركت المنظمة، بعد تجارب متكررة، أن العنف الصريح قد يؤدي إلى نتائج عكسية، مثل حظرها مؤقتا، أو تجميد تأشيرة مودي للولايات المتحدة، أو إسقاط حكومات ائتلافية. لذلك، وفرت شبكتها المدنية مرونة عالية، مكنتها من توجيه رسائل مختلفة لشرائح مختلفة من المجتمع.
نمط عالمي متكرر
ويرى بال أن هذا النموذج ليس حكرا على الهند. ففي ميانمار، لعبت الأديرة البوذية دورا مشابها في تعبئة دعاة تفوق البوذية، وفي المجر دعمت شبكات المجتمع المدني حزب فيدس بزعامة فيكتور أوربان، بينما أدت منظمات مرتبطة بمشروع “2025” في الولايات المتحدة دورا محوريا في دعم حركة “لنجعل أمريكا عظيمة مجددا”.
ويختم فيليكس بال مقاله بالتأكيد على أن تهديد اليمين المتطرف للديمقراطية لا يأتي دائما من جماعات سرية أو ميليشيات، بل غالبا من منظمات مجتمع مدني قانونية، وعلنية، وقابلة للنقاش.
وإذا كان اليمين المتطرف قد وصل إلى السلطة عبر التنظيم المحكم، فإن إزاحته – كما يقول – لن تكون ممكنة إلا بالتنظيم أيضا.
