تتصرّف السعودية في ردّة فعلها على تطورات جنوب اليمن وشرقه، وكأنّه أُسقط في يدها، أو تعرّضت لانقلاب مباغت كشف حدودها الطويلة مع محافظة حضرموت، التي تمثّل وحدها أكثر من نصف طول حدود المملكة مع اليمن، البالغ في مجمله أزيد من 1300 كيلومتر.
وبالفعل، جاء سعي الرياض لتثبيت حضورها في محافظتَي حضرموت والمهرة، من خلال قوات «درع الوطن» التي شكّلتها أوائل عام 2023، وباتفاق مع حزب «الإصلاح»، متأخّراً، بعدما سبقتها أبو ظبي مبكراً إلى السيطرة على الممرات والموانئ البحرية الحيوية في تلك المنطقة. على أن سهولة سقوط المحافظتَين في يد «المجلس الانتقالي الجنوبي» الموالي للإمارات، خلال أيام معدودة، لا تعود إلى تأخّر السعودية في الاستدراك فقط، وإنما في الأساس إلى أن تلك التطورات تندرج ضمن مشروع أكبر تشارك فيه إسرائيل بفاعلية وترعاه الولايات المتحدة ضمناً، وتمثّل الإمارات وحلفاؤها في اليمن رأس حربته.
ليس الهدف الوحيد للمشروع المذكور، تطويق «أنصار الله» في اليمن، ولا هو يندرج في إطار تغيير استراتيجية إسرائيل والغرب لتحقيق هذا الهدف بعد فشل سلسلة حملات جوية كبرى، ومحاولات لتوحيد القوى الجنوبية والشمالية المناهضة للحركة للقيام بعمل بري يستهدف السيطرة على الحديدة ومن ثمّ الانتقال إلى صنعاء، وإنما يأتي في سياق مسعى تقسيمي طويل الأمد يشمل دولاً عديدة في المنطقة، تشهد في الأصل نزاعات قومية أو طائفية، بما يهدّد بلداناً كبرى فيها كالسعودية ومصر وتركيا.
ولذا، جاء اعتراف إسرائيل بـ«أرض الصومال»، في أعقاب التطوّرات اليمنية، ليثير عصبية هذه البلدان، ولا سيما في ظلّ التعامل الأميركي الغامض معه، والذي يوحي بأن الولايات المتحدة تسمح لإسرائيل بالتلاعب بالقضايا السيادية، حتى على المستوى الدبلوماسي، وفي مناطق بعيدة عنها، وليس على المستوى العسكري وفي الجوار فقط، وذلك بغضّ النظر عن الموقف الذي ستتّخذه واشنطن في النهاية، والذي يرتبط، على ما يبدو، بالسرعة التي تسمح بها العوامل الموضوعية لتنفيذ الإجراءات المُشار إليها.
المخاوف لدى الدول الإقليمية الكبرى تتأتّى في الأساس من أن المشاريع التقسيمية لها جذور في كلّ الدول، باعتبار أن الأنظمة في معظمها، إن لم تكن تفقيرية، فهي قمعية، أو الاثنتان معاً، ما يدفع شرائح مجتمعية إلى تأييد التحرّكات الانفصالية على أمل أن تؤدّي إلى تحسين شروط حياتها. هذا ما توحي به الاحتفالات في «أرض الصومال» التي أعقبت اعتراف إسرائيل بها، وما تنبئ به أيضاً قوة «المجلس الانتقالي الجنوبي» في اليمن، والذي يطرح شعار انفصال الجنوب، وهو شعار لا تستطيع السعودية نفسها الوقوف في وجهه، نظراً إلى وجود أساس له في جنوب اليمن الذي يعود تاريخ وحدته مع الشمال إلى عام 1990 فقط، بعدما ظلّ منفصلاً منذ الاستقلال عن بريطانيا التي غادر آخر جنودها عدن عام 1967.
ما كانت الإمارات لتجرؤ، وربّما ما كانت لترغب، في تهديد الأمن السعودي بهذا الشكل، لولا أن هذه مهمة مُسندة إليها أصلاً من الولايات المتحدة، وهي مُرغمة على تنفيذها بفعل العلاقات الأمنية التي تربطها بالأخيرة. وربما لذلك، تُقارب الرياض وأبو ظبي صراعهما في اليمن بهدوء إلى الآن، من دون أن ينفجر أزمة علنية مباشرة في العلاقات بينهما؛ لا بل توحي الأخيرة في العلن بأنها تحاول مساعدة الأولى في إقناع «الانتقالي» بالانسحاب من المواقع التي احتلّها في حضرموت والمهرة - تمهيداً لإعادة نشر قوات «درع الوطن» فيهما -، باعتبار هذا الأمر مسألة أمن قومي سعودي لا تستطيع الإمارات إدارة الظهر لها، إلّا بغسل يدها من تصرّفات «الانتقالي» وإحالتها إلى امتثاله لأوامر أميركية، وربما إسرائيلية ضمنية، وليس لأوامرها هي، رغم علاقة التبعية التي تربط المجلس بها. فالخليجيون يعرفون آليات التدخّل الأميركي في شؤونهم؛ ولذا، حاول وزير الدفاع السعودي، خالد بن سلمان، المُكلّف بالملف اليمني، أن يفصل بين «الانتقالي» وقضية الجنوب التي عدّها «عادلة وإنما لا يمكن اختصارها بأشخاص»، بالقول، إن ما جرى يسيء إلى تلك القضية باعتبار أن «تحرير» عدن ما كان ليحصل «لولا التضحيات التي قدّمتها المملكة وأشقاؤها».
وفي مقابل محدودية ما يمكن أن تفعله السعودية للخروج ممّا حدث في الجنوب بأقلّ الخسائر، جاء الموقف الرسمي الإماراتي عاماً وضبابياً، موحياً بأن الإمارات، وإن كانت تفضّل الحوار، إلا أنها لا ترغب في أن يكون على قاعدة العودة إلى ما قبل التطورات الأخيرة، وفق ما تريده الرياض. ولعلّ هذا ما دلّت عليه دعوة مستشار الرئيس الإماراتي، أنور قرقاش، إلى «ابتكار المخارج السياسية، وحفظ الصداقات والتحالفات وتعزيزها، وعدم قطع حبال التواصل والمودّة»، وقوله إن «الإمارات ليست من تدعو إلى حق تقرير المصير في الجنوب، بل هي إرادة أهله».
وفي الأصل، بدا واضحاً أن تحرّك المجلس جاء في لحظة سياسية مناسبة للانقضاض على السعودية في اليمن، وذلك عقاباً لها على رفضها التصعيد مع «أنصار الله»، في حين أن تبرير «الانتقالي» السيطرة على حضرموت والمهرة بـ«منع وصول الأسلحة إلى الحوثيين والتمهيد للقيام بهجوم بري عليهم»، لم يكن مُقنِعاً لأحد، إذ إن الأخيرين هم الجهة الوحيدة في اليمن القادرة على هزْم المجلس - إذا ما أرادت مدّ سيطرتها إلى الجنوب -، ولكنّ تحوّلاً من النوع المذكور يتطلّب اتفاقاً مع الرياض لا تبدو الأخيرة قادرة عليه، ولا حتى على تطبيق «خارطة الطريق» التي أعدّتها الأمم المتحدة، وجرى التوصل إلى اتفاق مع السعودية حولها، قبل أن تتدخّل الولايات المتحدة لتعطيلها.
بالنتيجة، تقف السعودية اليوم أمام خيارات صعبة في اليمن، وإن كانت كسبت تعاطفاً عربياً نتيجة ما تعرّضت له. فلا التدخّل عسكرياً ضدّ «الانتقالي» خيار سهل، ولا التحالف أو التقاطع مع «أنصار الله» واقعي، ولا الخسارة التي منيت بها قابلة للابتلاع.
