ليس هنالك شكّ بأن معايير الكيان الصهيوني في التعاطي مع المقاومة قد تغيرت بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ حرب الفرقان أو عملية (الرصاص المصبوب) التي أخفقت في تحقيق أبرز أهدافها، فيما لم تفلح في المقابل في الحدّ من تعاظم قوة المقاومة وتسليحها وتطوير وسائلها. فالآن، يمكن القول بكلّ ثقة إن المقاومة قد صنعت بالفعل معادلة توازن الرعب، وثبتت أركانها، وصار أي تصعيد من قبل الكيان على الجبهة الغزية يقابل بتصعيد مقاوم حتى وإن كان أضعف من ناحية التأثيرات الماديّة في صفوف الاحتلال. وفي التصعيد الأخير على غزة ليس خافياً أن الاحتلال معني بالتهدئة، ولكن بعد أن يغالي في فاتورة الدم التي يأخذها من الفلسطينيين باستهداف أكبر عدد منهم (مدنيين أو عسكريين) قبل أن تدخل التهدئة حيّز التنفيذ، وميل الاحتلال لتهدئة الأوضاع بعد كل جولة (على عكس دأبه سابقاً) مرده ليس فقط ما يراه من ردود فورية على اعتداءاته، بل كذلك التغيرات الجذرية التي تتفاعل في المحيط العربي، مع كل ما قد تفرزه من آثار في حال قرّر الاحتلال خوض حرب مفتوحة على غزة. لذلك، ينبغي على فصائل المقاومة في غزة أن تقرأ التغيرات بصورة دقيقة وواعية، بعيداً عن التأثيرات العاطفية أو الإصغاء إلى بعض ما تضخه المنابر الإعلامية المشبوهة من (فتاشات)، تهدف فيما تهدف إلى محاباة بعض فصائل المقاومة في غزة على حساب حماس التي تتناسى أطراف عديدة أنها الحاضن الأساسي للمقاومة، ومطلقة يدها، وحامية مشروعها. والدليل أن المقاومة في غزة تتعاظم ويشتدّ عودها لدى جميع الفصائل، فيما نجدها في الضفة شبه معدومة، وتجابه بالاستهداف الاستباقي المزدوج من قبل الاحتلال والسلطة. وقراءة التغيرات التي جرت على بنية العقلية الصهيونية وأسلوب تعاطيها مع المقاومة يعني عدم الانجرار خلف من يدفعون بغزة للدخول في حرب مفتوحة فيما هم بمنأى عن دفع الضريبة، ومثله تقدير أهمية الضربات الموضعية التي تأتي في سياق مقاومة اعتداءات الاحتلال، وقياس مستوى النجاح الحاصل عن مراكمة إنجازها، يضاف إلى ذلك عدم الانشغال بالكلام عن الفعل، وعدم المبالغة في توصيف القوة الذاتية لكل جناح مسلّح، بل ترك الميدان وحده ليكون شاهداً على هذه القوة حين يحين أوانها. المشهد الميداني المقاوم في غزة لا يستوعب سوى أن تكون كلمة المقاومة واحدة، ورؤيتها لإدارة الصراع متقاربة ومجمعة على أبجديات ضرورات المرحلة ومتطلباتها. وقد لمستُ هذه المرة إجادة من قبل حركة الجهاد الإسلامي في إدارة ردّها على استهداف قادتها، رغم أن بعض التصريحات التي صدرت عن أحد الناطقين متحدثة عن إبقاء حركته وحدها في الميدان قد أساءت للصورة العامة، وأظهرت نَفَسًا فصائلياً غير محمود، ولا وجاهة له أصلاً. إن من يقاوم وعينه على المكاسب المعنوية التي قد تضاف إلى رصيد فصيله سيظل مراوحاً مكانه، لأن فعله سيظل معزولاً عن التقدّم في مسيرة التحرر، أما من يقاوم وفق رؤية متجردة ناضجة تأتي في سياق الحفاظ على مشروع المقاومة برمّته، وتراعي متطلباته، فسيرتفع رصيده تلقائياً حتى وإن لم يعمل لذلك. وما نرجوه من المقاومة في غزة بمختلف أطيافها أن تنأى بنفسها عن كل العوامل السلبية التي سبق أن ألمّت ببعض فصائل التحرر والمقاومة، وأورثت مشروع التحرر الترهل والفساد والتراجع. فمشروع المقاومة على وجه الخصوص لا يصحّ أن يندمج في إطاره إلا المؤمنون به والمخلصون لرسالته أكثر من إخلاصهم لذواتهم وحرصهم عليها. ولا بد أن تكون جميع أعمدة هذا المشروع على الدرجة نفسها من الوعي والإخلاص والجدّ. أما المزاودون والأفاكون من خارج هذه الدائرة فهم آخر من يمكن الإصغاء إليهم أو الالتفات إلى سمومهم التي يبثّونها كلما لاحت لهم فرصة لإحداث الوقيعة بين فصائل المقاومة بهدف نقض مشروعها المناوئ أصلاً لتوجهاتهم وقناعاتهم المتهافتة.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.