17.52°القدس
17.26°رام الله
16.64°الخليل
22.1°غزة
17.52° القدس
رام الله17.26°
الخليل16.64°
غزة22.1°
الخميس 10 أكتوبر 2024
4.92جنيه إسترليني
5.32دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.12يورو
3.77دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.92
دينار أردني5.32
جنيه مصري0.08
يورو4.12
دولار أمريكي3.77

خبر: الأقصى وواقعية الواقعيين

12
12
نبيل الفولي

للواقعية العجيبة في بلادنا ثلاث صور، الأولى أن الحدود السياسية تمثل في الوقت نفسه خريطة الانتماءات والهويات، والثانية انعزال كل وحدة سياسية بمشكلاتها، والثالثة التسليم بالواقع والرضا به.

حين أطلق محمود فهمي النقراشي باشا -رئيس وزراء مصر الشهير- إبان احتدام الصراع في فلسطين بين القوى الاستعمارية والقوات الصهيونية وبين العرب في أربعينيات القرن الماضي، عبارته: "أنا رئيس وزراء مصر ولست رئيس وزراء فلسطين"؛ حينها كان الرجل يعبر عن مرض لعين يصيب عندنا بعض الساسة والمثقفين والمشايخ وجانبا من جماهيرنا في اللحظات التاريخية العصيبة، ومع التحولات السياسية الكبيرة التي تمر بنا ونمر بها؛ يفقدون معه الوعي والحس والشعور، وينخلعون به من انتمائهم التاريخي والجغرافي، وأخشى أن أقول الديني والإنساني كذلك!

وهذا كله بعض حصاد التشويه الثقافي والفكري الذي تسلط علينا، وبعض ثمرات الانحراف التربوي والمعرفي الذي تعرضت له أجيال من شعوبنا في مدارس وجامعات بلا برامج ولا مناهج أصيلة العقل والروح، وفي محاضن تربوية بلا مربين ولا مؤدبين، وفي إذاعات وقنوات تلفزيونية بلا هدف ولا غاية إلا التلهية والتسلية والتشويه العقلي والخلقي.

وقد جاء الحصاد مُرًا، وكثيرا ما يلبس لباس الواقعية الكاذب، فيزعم أن ما يصيب بيروت لا يهم من في الدار البيضاء ولا مقديشو، وما يعرو القدس لا ينبغي أن يبكي له الحَرَمان، ولا تحزن له أروقة الأزهر ولا محاضر شنقيط، وما يسيل من دم بغداد لا ينبغي أن يشغل المقيمين بسفح قاسيون ولا رحاب الزيتونة، وما يجري في رابعة والنهضة لا علاقة له بأهل التوحيد من الهنود والبنغال والأفغان والتركستان والطاجيك.
ولهذه الواقعية العجيبة في بلادنا صور ثلاث:
الأولى: حين يزعم لك صاحبها أن الصورة التقليدية للعالَم وتصوراته قد سقطت في بلادنا مع زحف الحداثة وولادة الدولة الحديثة فيها منذ عقود طويلة، وأن الحدود السياسية تمثل في الوقت نفسه خريطة الانتماءات والهويات، فالليبي ليبي فقط، والسوري سوري فحسب، والقطري قطري ليس إلا، وكذا الجزائري والتونسي والسوداني والعُماني وغيرهم!

وقد وَلدت هذه الصورة من الواقعية في بلادنا وصفوفنا -وما زالت- نماذج عجيبة من العمالة للعدو والعمل ضد مصالح الوطن والأمة، حتى كان هؤلاء أشد ضررا على قضايانا في فلسطين وغيرها من العدو الصريح الذي ما اخترق حدودنا ولا استقر في أرضنا إلا بعونهم، حتى أطلق أحد المعلقين قولته الدالة: إن دولة إسرائيل لم تستقر في أرضنا إلا وعلى يمينها الحسن وعلى شمالها الحسين!! ولا فرق في هذا -في الحقيقة- بين "حسين" السياسة و"حسين" الثقافة والفكر، ولا بين "حسن" الدبلوماسية و"حسن" الإعلام والفن!

وهي صورة للواقعية تناقض نفسها؛ إذ يصمت أصحابها تماما حين ينكل الإسرائيليون بأحرار القدس ومرابطي الأقصى، وتنطق على استحياء حين يحرق غزاة الشتات فلسطينيين آمنين في مخادعهم ومهاد صبيانهم، وتتكلم محتجة بملء فيها حين ينطق صوت ما يقاوم الاحتلال، أو حتى يدعو إلى مقاومته.

وسل عن هذا حكام رام الله والمقاطعة والمهللين لهم في الصحافة والإعلام، وكيف ينكلون ويشوهون صورة المتظاهرين من سكان الضفة دفاعا عن الأقصى والقدس، وسل عنه انقلاب مصر وإعلامه الذي يصرح بصداقة إسرائيل وعداوة الفلسطينيين والسوريين، ويمارس الإرهاب وإغراق منافذ الحياة وأنفاقها الصعبة التي حفرها الغزيون إبقاء على رمق للحياة، ويأتي في إعلامه بأستاذ جامعة مأفون يزعم أنه لا يجوز الدفاع عن الأقصى حتى لا نثير حربا دينية مع إسرائيل!

وقد دحض الربيع العربي المغدور به مقولات هؤلاء ومزاعمهم حين أثبت أن منطقتنا العربية -وشيئا ما عالم الإسلام؛ السني على الأقل- بينها من التواصل ما يندر أن نجد له مثيلا في أي إقليم جغرافي آخر، بما في هذا دول السوق الأوروبية المشتركة التي أزالت الحدود فيما بينها، حتى يمكننا أن نشبه منطقتنا بمجموعة من الشوارع المتجاورة؛ ما إن يصرخ صارخ في أحدها معبرا عنها بصدق إلا جاوبته بقية الجهات، برغم كل ما فعلته الحدود السياسية والاستعمار وأبواقه الوطنية في بلادنا طوال القرنين الأخيرين.

إن إيران التي أنفقت ما أنفقت لتصدير ثورتها لم تفلح في هذا إلا بالخداع والعمل المخابراتي الطويل والإرهاب والحرب المباشرة وبالنيابة، وأما عالمنا العربي فما دفع أحد لأحد دينارا ولا درهما لنقل الشعلة من سيدي بوزيد إلى القاهرة فبنغازي وطرابلس وصنعاء وعدن، ثم دمشق وحلب وحماة؛ ما دفع أحد شيئا ليحدث هذا، لكنه الانبعاث التلقائي الذي إن عكس عمق الأزمة بين الأنظمة العربية وشعوبها، فقد عكس شيئا أخطر، وهو أن الهوية الواحدة ما زالت تجمع هذه الأمة، وكونها ممزقة وفي حال سياسية يرثى لها أقوى دلالة -حين يبدو منها هذا السلوك التجاوبي- على عمق الصلة بين أوصال هذا الوطن العربي المنكوب بالاستبداد وداعميه الخارجيين.

وأما الصورة الثانية لواقعيتهم المريضة التي تطرد قضية فلسطين والأقصى وغيرها من قضايانا خارج اهتمامها، فتبدو حين يقول لك أحدهم: إن همي يكفيني، فأزماتي الشخصية، وأزمات وطني الصغير السياسية والاقتصادية والاجتماعية أولى بي من أن أشغل وقتي بقضية هذا البلد أو ذاك؛ إذ كيف يترك المصري أو السوري أو اليمني أشلاءه مبعثرة في الطرق ودماءه غرقت بها الدروب والسكك، ويلتفت إلى الأقصى أو غير الأقصى؟! ما عندنا من وقت نمنحه قضايا جيراننا وإخواننا إلا ونحن أحوج إليه في أمورنا وشؤوننا الخاصة، والله تعالى لا يكلف نفسا فوق طاقتها!