بعض الزملاء والمؤسسات الصحفية اعتقدوا أن السلطة الفلسطينية وتحديدا وزارة الإعلام التابعة لها، ونقابة الصحفيين المحسوبة عليها، ستحمي ظهورهم وتوفر لهم الحماية والدعم في الوقت الذي يتعرضون فيه لاعتداءات إسرائيلية غير مسبوقة، تتمثل بإطلاق الرصاص عليهم في الميدان وملاحقتهم وإغلاق مقراتهم، بحجة "التحريض"، وغيرها من الممارسات.
لكن السلطة كانت سوطا إضافية يجلد الكلمة الحرة، وتلاحقها، دون سبب معروف، وهو ما خلق حالة من الغضب العارم تجاه هذه التصرفات.
فالصحفيون والإعلاميون والمؤسسات العاملة في الضفة الغربية باتت تتعرض لانتهاكات مزدوجة من السلطة وأجهزتها الأمنية، ومن الاحتلال الإسرائيلي وجيشه ومستوطنيه.
وفي أحسن الأحوال، اكتفت السلطة ووزارة الإعلام بالتنديد والاستنكار لما تعرضت له بعض الوسائل الإعلامية الفلسطينية والصحفيين من اعتداءات واغلاقات، تمثلت بإصدار بيان أو تنظيم وقفة احتجاجية، رغم أن المقار المغلقة تقع داخل مناطق سيطرة السلطة.
إغلاق الإذاعات
أخر تلك الانتهاكات، تهديد ما تسمى "الإدارة المدنية في جيش الاحتلال"، الخميس الماضي، لإدارة إذاعة ONE في الخليل بالإغلاق بسبب "بثها مواد تحريضية مخالفة للقانون" على حد وصفهم.
وجاء في كتاب التهديد الذي تم إرساله عبر الفاكس -وصل "فلسطين الآن" نسخة عنه- أن "إذاعة ONE تبث مواد تحريضية تطالب بإلحاق الضرر بالإسرائيليين والجنود، وهو مخالف للوائح قوانين الاحتلال المعمول بها".
وهدد رئيس الإدارة المدنية من خلال الكتاب بإغلاق الإذاعة ومصادرة معداتها إن لم تتوقف عن بث المواد التحريضية.
بدورها نفت إدارة الإذاعة ادعاءات الاحتلال بأن الإذاعة تبث مواد تحريضية، مؤكدة على أنها لا تبث سوى البرامج اليومية الاعتيادية، التي تنقل صورة الأحداث التي تجري في محافظات الوطن، والرواية الفلسطينية.
ويعتبر الاحتلال أن الأغاني الوطنية الفلسطينية هي التي تحرّض على تنفيذ الفلسطينيين لعمليات الدهس والطعن، في حين قالت الإذاعة إن هذا الادعاء غير صحيح لسبب بسيط، وهو أن الأناشيد الوطنية يتم بثها على كافة الإذاعات الفلسطينية منذ سنوات.
بعدها بيوم واحد، الجمعة 27-11-2015، سلطات الاحتلال الإسرائيلي، سلم محطة راديو ناس في جنين، إخطارا بالإغلاق ومصادرة معداتها بحجة التحريض.
مدير راديو ناس في جنين طارق سويطات، قال إنه تسلم عبر الفاكس إنذارا موقعا باسم قيادة جيش الاحتلال الإسرائيلي، تحذره بإغلاق محطة البث ومصادرة المعدات في حال استمر ببث عبارات ومواد تحريضية ضد جيش الاحتلال.
الحرية والخليل
أول استهداف علني وموثق للإذاعات كان يوم 3-11-2015 حينما داهم عشرات الجنود إذاعة منبر الحرية في منطقة دائرة السير بالخليل، ودمروا محتوياتها وصادروا كافة أجهزة البث والمعدات الصوتية والكاميرات دون سابق إنذار، وأبلغوا أصحابها بإغلاقها لمدة 6 شهور.
أيام معدودة حتى كان إذاعة الخليل تلقى المصير ذاته. مدير الإذاعة أمجد شاور، قال إن فرقة من جنود الاحتلال داهموا الإذاعة واستولوا على أجهزة البث والمعدات الخاصة بها. معتبرا ذلك "خطوة خطيرة تعبر عن عقلية همجية إجرامية وإرهابية ضد كل وسائل الإعلام الفلسطينية".
الإذاعة -التي تعد الأقدم في مدينة الخليل، إذ بدأت بثها منذ 18 عاما- لم يتلقَ أصحابها أي وعودات من أي من الجهات الحقوقية أو مسؤولين في السلطة لمساعدتهم في عودة البث أو حتى استرجاع ما تم مصادرته. حيث يؤكد شاور أنهم يرفعون صوت المواطن في وجه الانتهاكات التي يتعرض لها على يد قوات الاحتلال، لكن لا أحد يقف معه.
من الانتهاكات أيضا كانت اعتقال الزميل الصحفي والكاتب محمد القيق، خلال مداهمة منزله في بلدة أبو قش شمال مدينة رام الله.. وغيرها من الاعتداءات التي فاقت 130 انتهاكات منذ اندلاع انتفاضة القدس.
سلاح الإعلام
عدد من المتابعين لشئون الإعلام أكدوا أن الانتفاضة الحالية آلمت دولة الاحتلال، التي كانت دوما تجد للغرب مبررات لوصف الفلسطيني بالإرهابي، إلا أنها فشلت في ذلك خلال هذه الانتفاضة.
وعن ذلك يقول المختص بشئون الصحافة الفلسطينية الزميل خالد معالي لـ"فلسطين الآن" إنه "لو كانت دولة الاحتلال حقيقة قوية كما تزعم لما استهدفت الإعلام؛ ولكن ما جرى يرينا مدى هشاشتها واهتزاز صورتها المسكونة بالرعب والخوف، من الكلمة الحرة والصادقة التي تكشف ضعفه وعجزه وكذب رواياته المفضوحة والخادعة حول مجريات انتفاضة القدس المباركة".
وتابع "ما جرى يتطلب التحرك العاجل والفعال من الاتحاد الدولي للصحفيين وكافة المؤسسات الحقوقية والإنسانية؛ للقيام بواجبها الحقيقي والعملي تجاه حماية الصحفيين الفلسطينيين ومؤسساتهم، وعدم الوقوف عند حدود بيانات الشجب والاستنكار التي لم تعد تجدي نفعا أمام استمرار تلك الجرائم؛ وهي أصلا تشجعه؛ كون الشجب والاستنكار لا يغني ولا يسمن من جوع لدى الصحفيين".
وتساءل "سبق وأغلق الاحتلال مؤسسات صحفية؛ وقتل صحفيين واعتقل آخرين، وجرح الكثيرين؛ فهل توقف الصحفيين عن أداء رسالتهم؟! إذن مواصلة واستمرار الاعتداءات والملاحقات بحق الصحفيين لن يثنيهم عن مواصلة دورهم وأداء رسالتهم السامية من خلال الانحياز لشعبنا وقضاياها العادلة؛ بل سيزيدهم أيضا إصرارا على مواصلة أداء رسالتهم السامية بكشف وتعرية ممارسات الاحتلال".
حرب خفية
ملف الانتهاكات الإسرائيلية للصحفيين الفلسطينيين نال حظه من التركيز والمتابعة، غير أن هناك جزء يحتاج إلى المزيد من إلقاء الضوء، يتمثل بالحرب الخفية التي تشنها الأجهزة الأمنية في الضفة بحق الكلمة الحرة التي تدعم الانتفاضة وتؤيدها وتكشف عورة المتخاذلين والداعمين للاستسلام والخنوع.
مظهران رئيسيان لتلك الحرب، الأول يتمثل بما اضطرت قناة الأقصى الفضائية، لكشفه عن أن قدرتها على التغطية والنقل المباشر من الضفة الغربية قد "تعطلت" منذ مطلع شهر نوفمبر الجاري بسبب "إجراءات غريبة من الأجهزة الأمنية الفلسطينية"، على حد تعبير الفضائية..
والثاني المحاولة الفاشلة لوزارة الإعلام لإغلاق مكتب صحيفة العربي الجديد واعتقال مديرة المكتب الزميلة الصحفية نائلة خليل.
منع البث المباشر
الأقصى، أوضحت -في تصريح صحفي وصل "فلسطين الآن"- أن أجهزة أمن السلطة "استجوبت العاملين في شركة البث المتعاقدة مع الفضائية، وأبلغتهم بمنع العمل تحت ذرائع واهية، والأمر جرى استباقا مع باقي شركات البث".
ونوهت القناة إلى أنها ومنذ بداية المنع حاولت التواصل مع العديد من شركات البث العاملة في الضفة، لكنها فوجئت بالرفض نتيجة تحذيرات الأجهزة الأمنية.
ولفتت إلى أنها "ارتأت عدم الإعلان عن ذلك إكراما لأجواء انتفاضة القدس".
واستدركت قائلة: "إن تصاعد هذه الإجراءات وتأثيرها المباشر على تغطية القناة وشعورنا أنها تستهدف انتفاضة القدس دفعنا إلى هذا الإعلان لوضع الجميع أمام مسئولياته".
ودعت القناة في تصريحها جميع الجهات والفصائل والمؤسسات والشخصيات ذات العلاقة للتدخل العاجل من أجل وقف هذا السلوك "الخارج عن الإرادة الوطنية". على حد تعبيرها.
بلاغ كيدي
ورغم أن العمل في مكتب صحيفة العربي الجديد برام الله عادت لطبيعته، إلا أن التجربة القاسية التي مرت بها الزميلة خليل تستحق الوقوف عندها، فبعد وصول "بلاغ" لها، توجهت مع محامي الصحيفة، ومحامي نقابة الصحافيين إلى تحقيق رام الله بسبب مقال نشرته حقوقية مصرية حول انتهاكات السلطة وتحديدا على صعيد الاعتقال السياسي..
هناك مُنِعَ المحامي من حضور التحقيق وقدمت هي إفادة بحضور ممثل ومحامي نقابة الصحافيين علاء فريجات، حينها تم إبلاغها أنها موقوفة، لتخرج بكفالة شخصية، وتم التحفظ على بطاقتها الشخصية.
وبعد أن نالت القضية حظها من المتابعة، تدخل نقيب الصحفيين عبد الناصر النجار -المحسوب في صف السلطة- وأعاد لخليل هويتها وأعلن انتهاء القضية.
التفاصيل التي حصل عليها مراسل "فلسطين الآن" تؤكد أن وكيل وزارة الإعلام محمود خليفة يقف شخصيا وراء محاولات إغلاق مكتب الصحيفة وملاحقة مديرتها نائلة خليل لخلاف قديم بينهما، حينما كشفت خليل في تحقيق صحفي سابق لها عن دور لخلفية بإصدار بطاقة صحفية لصحفيين إسرائيليين لتسهيل مهمتهم في الضفة الغربية رغم وجود قرار بمقاطعتهم.
خليل استطاعت الحصول على مراسلة موجهة من خليفة إلى النائب العام يطلب فيها من النائب العام إغلاق المكتب بشكل كامل ونهائي "لعدم الترخيص، وبسبب نشر مقال يسيء للسلطة ويحرض على الأمن".
وقالت "ختم النائب العام وتوقيعه مثبت على الكتاب مع ملاحظة موجهة بخط النائب العام إلى نيابة رام الله "اتخاذ الإجراءات اللازمة".
مأساة كبرى
الزميل محمد عبد ربه كتب وقتها معلقا على ما جرى قائلا "ما حدث كشف عن مأساة أخرى تتعلق بآلية التعامل الرسمي مع الإعلاميين ووسائل الإعلام. لا يعقل أن يتخذ أي مسؤول قرارا متطوعا من تلقاء نفسه مخالفا القانون وضاربا به عرض الحائط انطلاقا من "كلمة حق أريد بها باطل".. ليحرج من بعد قراره جهات رسمية وتنفيذية ويجعلها عرضة للإدانة والاستنكار وحتى التندر من جمهور لا يمكن الاستهانة بتأثيره وبحضوره وامتداده".
وتابع "في هذه الجزئية كان واضحا، الإجراء الكيدي والمناكفة الشخصية وإساءة استخدام الصلاحية، وكأن الناس هنا عبيد أو قطيع من ماشية يقوده المسؤول ورجل الشرطة والأمن والآخران من هذا المسؤول براء...
الأمر الثاني: يتعلق بدور نقابة الصحفيين.. هذا الإطار الذي يجب أن يكون مسؤولا بكامل صلاحياته عن الدفاع عن الصحفيين وأن يكون لسان حالهم أمام أي جهة تعيق عمله وتمنعه أو تحظره.. وتتلكأ في تنظيم عمل وسائل الإعلام والمكاتب الصحفية التي تبادر بنفسها إلى تقديم كل ما يلزم وتستجيب لكل شروط العمل، ثم يلقى بطلباتها في أدراج هذا المسؤول أو ذاك لمجرد اتخذ موقفا مسبقا بالمناكفة وبلغ منه العناد ما بلغ.
الأمر الثالث يتعلق بالأجهزة التنفيذية وبمسؤولياتها وما يمكن أن تقوم به من فحص وتحري وتدقيق قبل أن تتخذ إجراءات متسرعة لا تلبث أن تتراجع عنها أو تنكرها رغم ثبوتها ووضوحها، ما أفقدها هيبتها التي نحرص على أن تظل محل احترام وأن لا ينتقص منها أحد.
لعل في الدرس من العبر ما يمكن أن يتعلم منه الجميع، خاصة النقابة التي وجدت للدفاع عن أعضائها في وجه تغول من يرى في التغول أسلوبا ووسيلة لفرض سلطته وتنفيذ قراراته.
هل أدركنا جميعا هذا الدرس...؟