لم تكن المرأة العجوز أم علي تعتقد، أن يأتي يوما وتمدّ فيه يدها لبشر ليساعدها على تغطية نفقات مرضها، أو نفقات مأكلها وملبسها.
زوج أم علي كان موظفاً كبيراً في إحدى المؤسسات الدولية، وبعد تقاعده عن العمل استلم مكافأة نهاية الخدمة ومدخراته، وفور استلامه لهذه الأموال سدد ما عليه من ديون وساهم في تزويج أبنائه وبناته.
وبعد مرور عدة سنوات، توفي بنوبة قلبية وبقيت أم علي حبيسة بين جدران منزلها لا تعلم مصير مال زوجها.
وبعد رحلة من البحث والمعاناة اتضح لها أنه قد صرف أمواله على أبنائه الذكور والإناث ووضعهم على سكة الحياة ومات مديوناً.
لكن مع مرور الأيام تقلص حجم زيارة أولادها لها وغطس كل واحد منهم في همومه اليومية، وبقيت هي تتقاسم مع جدران منزلها الفراغ والجوع القاتل.
وبعد برهة من الزمن، أدركت أم علي المعنى الحقيقي لمصطلح "غدر الزمان وجحود الأبناء وقسوة قلوب فلذات الأكباد".
لم يعد لهذه العجوز سوى ذكريات زوج زرع الفرح والسرور في بستان حياتها عندما كان على قيد الحياة، وبعد رحيله تحولت حياتها إلى جحيم لا يطاق.
أتمنى الموت
تقول أم علي -والألم والمعاناة يرتسمان على قسمات وجهها-: "أتمنى الموت وأن ألتحق بركب زوجي إلى الحياة الآخرة حتى أرتاح من قسوة الحياة الدنيا، ومن معاناتي مع مرض سرطان الكبد، الذي غيّر مجرى حياتي نحو مزيد من القلق والخوف فوق الخوف، الذي سيطر على مجريات حياتي بعد موت زوجي، الذي زرع الخير في بساتين البشر".
وتضيف: "بصفته رجل خير وإصلاح، صرف ما في جيبه على الفقراء واليتامى وبلسم جراح المجروحين، وتركني أصارع خذلان الأبناء وقسوة الأيام وشدة وجع الوحدة وشبح المرض، الذي انقض على جسدي وفتك بأعضائي، التي باتت أوهن من بيت العنكبوت. قصتي مع الزمن مؤلمة في تفاصيلها، مرعبة في قسوتها. بناتي المتزوجات ظروفهن المادية صعبة، ومع ذلك يحاولن مساعدتي، لكن قسوة الظروف وغلاء الأسعار، شبح يفرض سطوته على الفلسطينيين، الذين يحسبهم الناس أغنياء من شدة التعفف".
أم علي قصة من بين مئات القصص المؤلمة التي ترابض بين ضلوع أصحابها ولم تخرج من بين شفاه من اكتووا بنار المرض، أو نار الوحدة في زمن شاخت فيه كرامة البعض واندثرت فيه الرحمة من قلوب بعض الأبناء.
من يعلق الجرس وينفض غبار القسوة عن قلوب من ماتت قلوبهم في زمن الانكسار؟ أم علي لم تعد تحتمل فقر العواطف وتبلد مشاعر البشر، وقسوة الفقر، وارتفاع منسوب ضغط الدم في طنجرة (ضغط الحياة)، فهي تموت كل يوم بصمت من شدة لهيب سرطان الكبد، الذي حرمها من نعمة الصحة في آخر أيام حياتها.