يتلقى الطفل ياسر شريف (11 عاماً) من قرية تياسير شرق مدينة طوباس العلاج في مستشفى رفيديا بنابلس منذ عدة أيام بعد إصابته في حادثة انفجار جسم مشبوه من مخلفات تدريبات الاحتلال الإسرائيلي بالقرب من قريته.
الطفل -كما تظهر صورته- أصيب بحروق في وجهه ويده من الدرجة الثالثة.
يقول والده بأن طفله دخل إلى المنزل حاملاً شيئا لم يعلم ماهيته، وبعد برهة وقع انفجار، ففزع الجميع وتم إرسال الطفل إلى المستشفى، وتبين بعد ذلك بأن جسما مشبوها من مخلفات جيش الاحتلال قد انفجر بين يديه، مشيرا إلى أن جيش الاحتلال يقوم بشكل دوري بالتدريبات بالقرب من القرية، وربما رغب طفله باكتشاف إحدى مخلفاتها، ووقع الحادث.
الجسم الذي انفجر بيد الطفل، يعد من نوع القنبلة الحرارية دخانية ملونة، وتستخدم للتدريبات العسكرية، وتنفجر أثناء الملامسة باليد، أو كسرها، وعادة يتم نقلها من أماكن التدريبات إلى الأحياء السكنية من خلال عبث الأطفال، أو رعاة الأغنام، وأحيانا تلقيها الطائرات الإسرائيلية.
يشار إلى أنه خلال السنتين الماضيتين، تسببت مخلفات التدريبات العسكرية الإسرائيلية في محافظة طوباس والأغوار الشمالية، بوقوع العديد من الإصابات في صفوف المواطنين.
الطريق إلى "يرزا"
في كل منطقة من الأغوار قصة وحكاية.. فممارسات الاحتلال الإسرائيلي هناك لم تعد تقتصر على مصادرة الأراضي ونصب الحواجز العسكرية ومنع الفلسطينيين من البناء وتطوير البنى التحتية.. بل عمد إلى إيجاد أوضاع جديدة تدفع بالمواطنين هناك إلى الهجرة بحثا عن الأمن والأمان.
انطلقت بنا الشاحنة عبر طريق وعرة امتدت لعشرة كيلومترات صوب خربة "يرزا" إلى الشرق من طوباس، حيث لم يسمح الاحتلال للجهات المختصة بتعبيدها وصادر آليات العمل.
في الطريق جال بخاطري سؤال لو أصيب أحد سكان الخرب هنا بجلطة مفاجئة كيف سيتعاملون معه؟؟.. فالدواب تجد صعوبة بالغة بالسير فوق هذه الطريق التي تتنوع ما بين صخرية حجرية في أحيان وترابية يعلوها الحشائش في أحيان أخرى.. فجاء الجواب من الدليل الذي رافقنا "يا بيعيش يا بيموت"..
بعد قطعنا لثلثي المسافة لم نصادف خلالها إنسا ولا جانا، التقينا بمحمود عينابوسي وهو يحرث أرضه بجرار قديم، سبقناه إلى منزله في الخربة التي يمكن أن تصلح لأي شيء سوى أن تكون مكان للسكن والعيش.. لا يزيد عدد ساكنيها عن بضع عشرات يعتاشون على تربية المواشي والرعي إضافة للزراعة البعلية، فالماء بالنسبة لهم أغلى من الماس والياقوت.
أمام "تناكية" حولتها أم محمود لمطبخ متواضع، وقف نجلها يصف لنا ما جرى معه، فقد دفعته الحرارة الشديدة في صيف إحدى السنوات الماضية للنوم في الخلاء قرب مطبخهم، غير آبه بكلب ضال أو ضبع متوحش أو أفعى سامة.. لكن الموت كاد يقضي عليه من شيء أخر لم يخطر بباله.
التدريبات العسكرية
فقد نفذ جيش الاحتلال ليلتها تدريبا عسكريا على الرماية، لكن الأهداف لم تكن سوى بيوت الخربة وكل ما يتحرك فيها من الدواب والمواشي.. فاخترقت رصاصة كتفه الأيمن ونزلت إلى مكان قريب من القلب.. فلم يجد ذووه وسيلة لنقله بعد أن هدأ إطلاق النار سوى خيل يستعينون به على تضاريس الطريق بعد أن اضطروا قبلها للسير به وهو ينزف لمسافة طويلة.
يعود محمود بالذاكرة إلى الخلف، قائلا لـ"فلسطين الآن": "شعرت وأنا نائم بلدغة شديدة أحدثت قشعريرة في بدني كله، فقمت فزعا لأجد الدماء قد غطت الجزء الأعلى من جسدي.. فصرت أصيح وأكبر وكان الرصاص ما يزال يلمع فوقي ويتساقط حولي.. فهب الأهل والأقارب لإنقاذي.. مشيت وأنا أتعكز على احدهم حتى وقعت من شدة الألم والنزيف، فحملوني على حصان حتى وصلت قبيل الفجر إلى عيادة بطوباس ومنها إلى نابلس، والحمد لله الذي كتب لي عمر جديد"..
ضحايا كُثر
الحظ الجيد لم يصادف كثيرين في الأغوار الشمالية وفي يرزا تحديدا كما صادف محمود، لا سيما أن جيش الاحتلال يجري وبشكل دائم، مناورات عسكرية تشارك فيها كافة تشكيلاته المسلحة وتستخدم خلالها كافة أنواع الأسلحة والذخائر، ما يعرض حياة المواطنين للخطر المستمر، ويؤدي لحرق وإتلاف مساحات زراعية واسعة.
ليس هذا فحسب، فانتهاء المناورات لا يعني زوال الخطر، فالجيش يتعمد ترك القنابل التي لم تنفجر خلفه، والتي قد تنفجر في حال العبث بها أو السير فوقها، كحال الشاب حافظ برهان مساعيد الذي بترت أصابع قدمه اليسرى في حين استشهد قريبه بعد انفجار لغم ارضي بهما.
يقول حافظ "كان ذلك عام اثنين وتسعين.. كنت حينها في الثالثة عشرة، سرحت بالغنم برفقة ابن عمي إبراهيم في الجبال والسهول الممتدة حول قريتنا.. وبلحظة شعرت بشيء يقذفني بعيدا والدماء تغطي قدمي وحرارة شديدة في المكان.. فصرت أصيح من الخوف ولم انتبه إلى أن ابن عمي قد تحول إلى أشلاء.. فقد داس على لغم ارضي فانفجر بنا".
لا إشارات أو خرائط
لا يكتفي الاحتلال بذلك، فهو لا ينبه السكان لمواعيد التدريبات، ولا يضع إشارات تشير إلى أن هذه المناطق عسكرية مغلقة أو مناطق إطلاق نار، كما لا يسمح للجهات الرسمية في السلطة باقتناء أجهزة للكشف عن الأجسام المشبوهة، كما يرفض تسليمهم خرائط تبين مواقع زرع الألغام الأرضية.. هذا ما يؤكده معتز بشارات مسئول ملف الاستيطان والأغوار في محافظة طوباس، مشيرا في حديثه لـ"فلسطين الآن" إلى أن اللون الأخضر طالما شكل مصدرا للحياة والأمل لدى المزارعين الفلسطينيين، لكنه في الأغوار يخفي بين جنباته وتحته قنابل موقوتة تحول حياة المزارعين إلى جحيم..
ويضيف "الألغام الأرضية والمخلفات التي يتركها الجيش، أسلوب ينتهجه الكيان الإسرائيلي لتفريغ منطقة الأغوار من ساكنيها تمهيدا لفرض سيطرته الكاملة عليها".
وتبلغ مساحة محافظة طوباس 410 كيلومتر مربع أي انها تفوق مساحة قطاع غزة، تشكل الأغوار الشمالية ما نسبته 70% من مساحة المحافظة، وغالبية هذه المساحة عبارة عن مناطق عسكرية مغلقة تستخدمها قوات الاحتلال للتدريبات العسكرية وتمنع تنفيذ المشاريع الإنمائية فيها، بل تسعى إلى تفريغها من ساكنيها".