هدوء نسبي مشوب بالترقب والحذر، تعيشه مدينة نابلس وتحديدا المنطقة الشرقية من بلدتها القديمة، التي عاشت وبالأخص الحي الذي يُعرف بـ"درج العقبة" والحارات الملاصقة له، أيام عصيبة، تلت استشهاد 4 مواطنين، هما عنصرا أمن يعملان في جهازي الشرطة الخاصة والأمن الوطني هما شبلي بني شمسة ومحمود الطرايرة عصر الخميس 18-8، ومسلحين اثنين هما: فارس حلاوة وخالد الأغبر فجر الجمعة الذي تلاه.
وخلال الأيام الماضية، فرضت الأجهزة الأمنية سيطرة مطلقة على البلدة القديمة، واعتقلت نحو 30 مواطنا منها ومن بقية أحياء نابلس، بعضهم -كما قالت- متورط بإطلاق النار على عناصرها، كما صادرت أسلحة وقنابل يدوية الصنع، كانت تستخدم ضدها وفي أعمال الفوضى والفلتان.
لكن هذا النشاط الأمني الذي حظي في بدايته بدعم شبه مطلق من المواطنين الذي لا يريدون العودة لمرحلة الفلتان التي عاشوها قبل عدة أعوام، خسر بعد سويعات قليلة على بدءه الكثير من الدعم والتأييد، لا سيما مع تكشف حقائق مرعبة تتمثل بإعدام السلطة للشابين المذكورين، واقتحام المنازل بطريقة وحشية والاعتداء على ساكنيها وعدم مراعاة حرمتها، وظهور الرغبة بالانتقام لدى بعض عناصر الأمن، وهو ما أمكن ملاحظته من خلال تصرفاتهم الفظة والسباب والشتائم التي كانوا يوجهونها للمواطنين دون سبب.
رفض شعبي
وفي خطوات تدريجية، ارتفع أصوات المواطنين وتبعتهم بعض الشخصيات الاعتبارية والهيئات المحلية لرفض تلك التصرفات، وضرورة عدم استخدام القوة بشكل مبالغ به تجاه المدنيين العزل.
تجمع دواوين عائلات الديار النابلسية، الذي يضم تحت لوائه أكثر من 80 عائلة نابلسية، دعا للحفاظ على النسيج المجتمعي، وإلى التزام الهدوء وعدم الانجرار وراء الإشاعات والفتن، وعدم التعامل مع ردات الفعل، لكنه بالمقابل طالب الأجهزة الأمنية بالتعامل بموضوعية مع كافة فئات المجتمع، والحفاظ على كرامة المواطن في أي عمل أمني.
كما طالب الجميع بعدم التعدي على الممتلكات الخاصة والعامة وحمايتها، والحفاظ على تاريخ المدينة، والاصطفاف بشكل موحد للخروج من دائرة العنف والفلتان الأمني التي تعانيه المدينة.
اجتماع المؤسسات
وعلى الصعيد المؤسساتي، عقد في مقر بلدية نابلس في ساعة متأخرة من مساء أمس الأحد اجتماع موسع، لمناقشة السبل الكفيلة بتطويق الأحداث، والحيلولة دون تطورها أو تفاقمها.
وضم الاجتماع المؤسسات والفعاليات والشخصيات الوطنية والاعتبارية وممثلي العائلات والمجتمع المدني، وتخللته مناقشات مستفيضة وحوارات معمقة، وخرج المجتمعون بجملة من القرارات والتوصيات والمطالب.
أولا جاء التأكيد على حرمة الدم الفلسطيني وقدسيته في كل الأحوال والظروف، وعلى الوقوف إلى جانب الحكومة والأجهزة الأمنية في مسعاها لفرض الأمن وبسط سيادة القانون، ومحاسبة الخارجين عنه، ومصادرة السلاح العبثي في كافة مناطق المحافظة، وتقديم الخارجين عن القانون للعدالة.
إلى هنا يبقى الكلام عاديا إنشائيا متوقعا، لكن بعض المشاركين كانوا صرحاء إلى أبعد حد، حين تحدثوا عن انتهاكات غير مسبوقة من السلطة وعناصر الأمن تجاه المواطنين دون تمييز، ما خلق جوا من الرعب والقلق الممزوج بالغضب والاحتقان لدى سكان نابلس عامة والبلدة القديمة على وجه التحديد.
هؤلاء أصروا على تضمين البيان الختامي للقاء "التأكيد على دور الأجهزة الأمنية في حماية كرامة المواطنين وسيادة القانون، وعلى ضرورة الوقوف عند أي تجاوزات قد تحدث من بعض أفراد الأجهزة عند تطبيق القانون".
ليس هذا وحسب، بل طالبوا بتشكيل لجنة تقصي حقائق قضائية للوقوف على كافة الملابسات التي رافقت الأحداث الأخيرة، وضرورة معالجة أسباب الفلتان الأمني، ومحاسبة أية جهة تسعى لنشر الفوضى والفلتان بين أبناء مدينة نابلس.
أسلحة ومعدات قتالية
وكان الناطق باسم الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية عدنان الضميري، أعلن في مؤتمر صحفي عقده برام الله ظهر الأحد، "عن ضبط بنادق أوتوماتيكية رشاشة وقذائف "انيرجا" وكميات ذخيرة كبيرة داخل صناديق مغلقة، وقذائف "ار بي جي" وقنابل مصنعة يدويا كانت تخزن بسراديب تم إنشاؤها حديثا وليست سراديب نابلس التاريخية".
وكشف الضميري عن ما قال إنها "الجرائم التي ارتكبتها تلك المجموعة وعددها 11 قتل واعتقل 5 وبقي 6"، مؤكدًا أن الأجهزة الأمنية في سعي متواصل لتقديمهم للعدالة.
ولاحقا أعلن محافظ نابلس أكرم الرجوب عن اعتقال اثنين من المتهمين الخطيرين في قضية إطلاق النار، مشيرا إلى ضبط قطعة السلاح لأحد عناصر الأمن الذي قتل الخميس الماضي.
وقال "نحن انتصرنا لكرامة المواطن النابلسي من أجل العيش بهدوء وراحة واستقرار، وهذا واجبنا، ونحن مستمرون في استهداف أي مشتبه أو متهم بإطلاق النار على المؤسسة الأمنية، أو انتهاك كرامة المواطن الفلسطيني".
مبدأ التناسب
هذا الانتهاك الذي ذكره الرجوب وكأنه رفع للعتب لا أكثر، تحدثت عنه حتى المؤسسات الحقوقية، إذ أكد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان على ضرورة التزام قوات الأمن بتعليمات إطلاق النار بما يحقق مبدأ التناسب، وحماية ممتلكات المواطنين، وتجنب الاستخدام المفرط للقوة، ومراعاة كافة معايير حقوق الإنسان في التعامل مع المطلوبين للعدالة.
ووفق متابعة المركز، ففي حوالي الساعة 12:00 بعد منتصف ليلة الخميس 18 أغسطس 2016، استدعت قوات الأمن تعزيزات للقبض على مطلوبين للعدالة متهمين بأنهم وراء مقتل رجلي الأمن في الاشتباك الذي وقع في المدينة قبلها بساعات.
وحاصرت قوات الأمن حارة العقبة في البلدة القديمة، واشتبكت مع مسلحين، ما أسفر عن مقتل اثنين، قالت قوات الأمن إنهما من المطلوبين.. كما أدى الاشتباك -الذي استمر حتى الساعة الرابعة فجرًا- إلى إصابة أحد رجال الأمن، وكذلك حرق ديوان آل الخياط، وهو من المعالم الأثرية في البلدة القديمة.
الرد والانتقام
وقبل ذلك كان المحامي نائل الحوح يفجر قنبلة بانتقاده العلني لسلوك السلطة، وهو ما حرّك -حسب المتابعين- المياه الراكدة في هذا الملف وشجع المواطنين على الإدلاء بمشاهدتهم حول انتهاكات السلطة.
الحوح -الذي كان قد كسب مؤخرا قضية رفعها ضد قرار رئيس السلطة محمود عباس تعيين علي مهنا رئيساً للمحكمة العليا ومجلس القضاء الفلسطيني الأعلى- رأى أن الأجهزة الأمنية لم تكن موفقة باتخاذ قرارها الخاطئ باقتحام البلدة القديمة في وقت الازدحام والذروة، أو أنها وقعت بكمين ولم تكن موفقة بالتعامل معه.
وقال: "دور الدولة من خلال أجهزتها محاسبة الخارجين عن القانون من خلال إحالتهم إلى جهة القضاء المختصة بإنزال العقوبة الرادعة بحق الخارجين عن القانون، إلا أن ذلك لا يبرر للمؤسسة الأمنية اتخاذ الإجراءات القمعية بحق المواطنين في البلدة القديمة". محمّلا السلطة مسؤولية إعدام مواطِنَيْنِ في البلدة القديمة، وإحراق أحد أعرق دواوين نابلس، وحرق السيارات والبيوت على أساس انتقاميّ.
وكانت عائلتا المغدورين حلاوة والأغبر شككتا في بيانين منفصلين بصحة رواية الأجهزة الأمنية حول الطريقة التي قتل فيها ابنيهما فجر الجمعة، وطالبتا بالتحقيق في ملابسات مقتلهما برصاص الأجهزة الأمنية، ووجهتا اتهاما لها بإعدامهما بعد اعتقالهما.
الأمن والأمان
النشطاء على صفحات مواقع التوال الاجتماعي، شنوا هجوما حادا على أداء السلطة والأجهزة الأمنية "التي كانت ترعى الفلتان، وتشاهد الانتهاكات يوميا، ولا يحركون ساكنا".
يقول سعد عمر من نابلس إن "مئات ملايين الدولارات استثمرت على مدار السنوات الماضية في انتاج فيلم محروق أسمه "الأمن والأمان للمواطن الفلسطيني، لكن على ما يبدو هذه الأموال جيئ بها فقط لحفظ أمن "س" و"ص" من الناس لإبقاهم على كراسيهم ومناصبهم التي تصب في مصلحة الطرف المظلم!!.
أما الشاب أحمد أبو يوسف، فكتب قائلا: "عندما دخلها الاحتلال في نيسان 2002، كانت البلدة القديمة حاضنة للمقاومين وقدمت الشهداء والجرحى والأسرى.. وكان جيش الحتلال يطلق عليها اسم (عاصمة الارهاب الفلسطيني) لما قدمته من استشهاديين في الاراضي المحتلة وكانت عملياتهم موجعة وكبدت الاحتلال خسائر جسيمة .
وأضاف "هذه إحدى حكايات البلدة القديمة وعلى كل مزاود أن يرجع للتاريخ ويقرأ جيدا بين سطوره الأحرف التي سطرتها دماء الشهداء .. ستظهر الحقيقة عاجلا أم آجلا، وأبناء نابلس لم ولن تنسى دماء شرفائها"..
إجراءات استفزازية
أما الناشط في قضايا الأسرى فؤاد خفش، فعلق على صفحته كاتبا: "نصيحة للأجهزة الأمنية في نابلس غالبية الشارع كانت مع خطواتكم لضبط الأمن واعتقال المنفلتين.. هناك إجراءات استفزازية يقوم بها بعض أفراد الأمن داخل البلدة القديمة.. استغلوا تأييد الناس واضبطوا جميع العناصر وعاملوا الناس برفق واستمعوا لشكاوهم وشكلوا لجان مراقبة ومتابعة".
أما أم عبد الرحمن، فكتبت معلقة على الأحداث إن "الكل مع الحملة الأمنية، بس كلنا ضد تدمير وتخريب البلدة القديمة ومعالمها بحجج واهية أو حجج حقيقية.. لازم تشديد على العساكر أن تخريب وتدمير وحرق ومساس بممتلكات ممنوع منعا باتا.
وتابعت "في ذات الوقت نرى أن المؤسسة الأمنية لم تكن موفقة باتخاذ قرارها الخاطئ باقتحام البلدة القديمة في وقت الازدحام والذروة ، أو بأحسن أحواله كمينٍ وقعت به الأجهزة الأمنية لم تكن موفقة بالتعامل معه... ورغم ذلك فإن دور الدولة من خلال اجهزتها محاسبة الخارجين عن القانون وإحالتهم الى جهة القضاء المختصة بإنزال العقوبة الرادعة بحق الخارجين عن القانون، إلا أن ذلك لا يبرر لها اتخاذ الإجراءات القمعية.