19.44°القدس
19.28°رام الله
18.3°الخليل
24.47°غزة
19.44° القدس
رام الله19.28°
الخليل18.3°
غزة24.47°
الإثنين 07 أكتوبر 2024
5جنيه إسترليني
5.38دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.19يورو
3.81دولار أمريكي
جنيه إسترليني5
دينار أردني5.38
جنيه مصري0.08
يورو4.19
دولار أمريكي3.81

(أردوغان) نموذج القيادة التّحولية الكُلّية

عبد الله العقاد
عبد الله العقاد
عبد الله العقاد

 (1)

النقد، والبناء.. وظيفة القادة التحوليين، نعم، إنّه نقد الماضي بما فيه من تخلف ومهلكة وما أنتجه من آلام ومخمصة، وبناء المستقبل بما يحمله من آمال عريضة وذلك بما تيسر من مكونات الحاضر ومكنوناته، وفق الطاقات وبقدرها، وفي حدود الامكانيات وقدرتها.

لا يُساورهم هدف غير نقل الأمة من الدّونية ومهاوي القاع السحيق إلى الريادة القائمة على بناء معاني السيادة في كلّ أشكال القوة وأوجهها المتعددة.

بدءاً من القوة العقدية بتأكيد هوية الأمة واستقلاليتها الحضارية مروراً بتعميق القوة المعرفية وتنوعها من خلال الاستثمار بالبحث العلمي العملي الذي له أثر مباشر على تدوير العجلة الاقتصادية بمشاريع تزيد من المنسوب العام لدخل الفرد وتقدم الدولة..

لتحقيق الرفاه الاجتماعي الذي يتجاوز به الحديث عن حقوق الفرد في الدولة إلى درجة متقدمة كثيراً، وهو ما يزيد من التماسك المجتمعي بين مكوناته العرقية (الاثنية) وانتماءاته الدينية وولاءاته المذهبية، ناهيك عن تمتين الشراكة الوطنية بين كل أطيافه السياسية الحزبية.

وهذا حتماً ما يزيد بشكل كبير جداً من الإثراء الثقافي والتميز الأدبي المنتمي لقيم الامة، تلك القيم التي تحفظ المجتمع من الانحرافات والتشوهات الوافدة سواء ما يأتي منها على شكل موجات من الإلحادية التشكيكية المستهدفة لعقيدة الأمة، أو الأخرى الإباحية المستهدفة لقيم الأمة الأخلاقية.

(2)

قليلون ولكنّهم مؤثرون أولئك الذين يصنعون المستقبل الواعد لأمتهم بسواعدها، وبالاعتماد على قوّتها الذّاتية والتي أهمّها الإيمان بمفهومه الشامل، ثم ما يكون من تطوير امكانيات الأمة بما يصلون إليه من مكنوناتها الطبيعية والبشرية؛ فيحركون فيها كلّ معاني الخيرية.. وبذلك ينقلونها من السلبية والاتكالية إلى درجات عُليا من الإيجابية والإنتاجية المتقنة.. هؤلاء هم من يُمكن أن نُطلق عليهم [القادة التّحوليين].

أجل، فالقيادة التحوليّة.. هي التي تأخذ بالأسباب وتتبعها (فأتبع سبباً)، بقدرتها على أن تُقيّم الحال العام لأمّتها دون شطط أو اسفاف، فترى بعينٍ ناقدة وتبصر بعقل واعٍ، ما بالأمّة من جهالة معرفيّة، وغياب حضاري قسري، وتخلف تقني في الصناعات المختلفة، وافتقار مادي وما يفاقمه من حالة العوز والفاقة، وما ينبع من النّفس من الاحتقارٍ للذات أو الشعور بمركب النقص (الدّونية) والانبهار بما عند الآخرين..

وما يُصاحب ذلك من التّهتّك العام في النسيج المجتمعي الذي تكون به الأمة في حالة بُكم ثقافي (لا يكادون يفقهون قولاً).

فإنّ هذا النوع من القادة يميّزون جيداً ما بين الأسباب الحقيقية التي تكون علّة الحالة وسبب علتها وما يلزم من تلك العلل من أعراضٍ طارئة تزول بزوال المسبب؛ فتركز كلّ جهدها في الأولى دون أن تصرف منه على ما يكون من الأعراض غير ترميم ما أفسدته العلة الحقيقية.

(3)

أهم ما يُميز أيضا أولئك القادة النوعيين، أنّهم يباشرون مشاريعهم الإصلاحية دون انتظار للقادم أو تعلل بالقائم. ولكن، بخطوات متدرجة مدروسة موزونة، في عملية تهدف إلى التغيير الشامل الكلي المستوعب لكل أفراد الحالة ومكونات المشهد بكل أبعاده.

بعيداً كل البعد عن الصخب الإعلامي بما يثيره من حساسيات تفتح أعين الكائدين (لا تقصص رؤياك على إخوتك؛ فيكيدوا لك كيداً..). فأعداء النّجاح عادة ما يظنّون أنّهم مستفيدون من الواقع القائم ، أو أولئك المتخوفون من أي عملية تغيير على اعتبار أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان..!

ناهيك عما قد يُثيره الإعلام من مخاوف كبيرة للأعداء الخارجيين المتربصين أولئك الذين بنوا أمجادهم على افتقار الآخرين، وقد جعلوا من تلك البلدان جسوراً لأطماعهم التوسعية، وقد سخّروا أهلها عبيداً لهم، مُستهلِكين ما ينتجون، مُستهلَكين فيما ينتجون كـ (أيدٍ رخيصة التكلفة)، كما وجعلوا من موارد المستضعفين خاماً لصناعاتهم يأخذونها من أهلها بدراهم معدودة فيعيدونها مصنعة بأسعار عالية مرتفعة.

فتحاشياً لكل ذلك وغيره، عادة ما تنطلق تلك القيادة التّحوليّة في مشاريعها من جذور المشكلات وأُسسها، بلا جلبة أو صخب، وبشكل دؤوبٍ ومتواصل باستمرار، وبجهود متضافرة دون تعجلٍ للنتائج أو استعجالٍ في قطف الثّمار..

فإذا ما استوت هذه المشاريع والتقت جميعاً، فإنّها تتكامل لترسم معالم جديدة بوجه حضاري آخر غير المعهود، فتتسارع بعدها عجلة التغيير والاصلاح بشكل مضطرد؛ فيخرج على السطح تحوّلات نوعيّة تلامس كل أوجه الحياة ومجالاتها المتنوعة بصبغة جميلة تسر الناظرين وتؤتي أكلها أضعافاً كثيرة في كل حين.

فإنّه مما يُعهد به أولئك القادة التحوليون أنهم يقللون من الجهود المهدورة إلى ما يقترب كثيراً من الصفر بل يُعاظمونها؛ لحاجتهم الماسة لها، فتجدهم ينْظُمون كل الطاقات بشكل فاعل في معامل للإنتاج النوعي والمتنوع ليقصروا الزمن لما يريدونه بما يستطيعون لذلك سبيلاً.

لهذا هم أشدّ حرصاً على حلّ العقد والنزاعات الداخلية دون استقواء بالدولة بما يظلم طوائف من الشعب أو كله، كما ويحرصون كل الحرص على تصفير المشكلات الخارجية بما لا يُسيء سيادة أمتهم أو ينقصها، ولكن، بعيداً _ طبعاً_ عن العنتريات الفارغة التي تستجلب العدوان؛ فتهدر الموارد بما لا صالح فيه للعام، وتؤخر عملية التقدم واستمرار البناء.

 (4)

وغير ذلك تجد هذا النوع من القادة يتميزون بالمرونة الكافية لاستيعاب المتغيرات بشكل سريع فيخضعونها لبرامجهم؛ فلا يجعلون منها عائقاً أمام ما يريدون الوصول إليه، بل قد يجعلون مما يفاجئهم من تهديدات أو يعترضهم من تحديات، فرصا ومكامن قوة تزيد من فاعلية برامجهم وتزيد من وتيرة عملهم.

فهم بذلك في عملية تقييم مستمر لا يقدسون أداة أو وسيلة أو أسلوباً قديماً أو مستجدا أو حتى جديداً، فلا يُقدّرون أيّاً منها إلا بقدر منفعتها والمصلحة المتحققة منها.. فما هو صالح اليوم نافع مُجْد فهو ليس كذلك غداً.

أولئك القادة لا يستعرضون من قوتهم إلا بما يحقق مصالحهم ويدرأ عنهم الشرور والمخاطر فهم متوازنون بلا انقطاع، غير أنّ لهم هامش مناورة يتسع ويضيق بقدر ما تجد فيهم الامة من الكفاءة والأمانة.

ويبقى (الإنسان) هو محور اهتمام أولئك القادة التحوليين، ومحور عملهم والغاية من العملية من المشاريع النهضوية التنموية في الأمة، فهو معيار التقدم، ومقياس السعادة، وبقدر قيمته تكون السيادة..

(5)

وبما تقدم من عرض جوهر ما اسميتهم القيادة التحولية التي تظهر في الأمة بشكل يبدو أنّها تأتي فجاءة وإن كانت في الحقيقة تعتمل في رحمها حتى إذا جاءت اللحظة المناسبة فيأذن الله لها بالخروج تخرج لتؤدي رسالتها ودورها المنشود منها، فهؤلاء قد ظهروا في الأمم السابقة في هيئة رسل مصطفين وأنبياء صادقين أو حكماء يجري ذكرهم إلى اليوم كلقمان الحكيم وذي القرنين..

كما ويظهر أولئك في الأمم الأخرى من غير أمتنا فينتقلون بقيادة أمتهم نقلات نوعية سواء بشكل كلي كما كان من (نابليون بونابرت) في فرنسا، و(جورج واشنطن) في أمريكا، و(ماو تسي تونغ) في الصين، و(لي كوان) في سنغافورة، و(نيلسون مانديلا) في جنوب أفريقيا..

وفي أمتنا كان العديد من أولئك القادة التحوليين الذي انتقلوا بالأمة نقلات نوعيّة فارقة، كان من أبرزهم بعد الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز في الدولة الأموية، والقائد بيبرس والظافر قطز في دولة المماليك، وصلاح الدين الأيوبي في سميت بالدولة الأيوبية، والأمير محمد الفاتح الذي فتح الله على يديه القسطنطينية وهي ما سميت بإسطنبول..

واليوم يتصدر رائد النهضة الماليزية العملية الصناعية مهاتير محمد، ويبرز قائد النهضة التركية الحديثة رجب طيب أردوغان، ولكن أهم ما يميز هذا الزعيم التطور السريع المتوازن في كل مكونات الدولة الذي غير أوجه الحياة فيها، وبالإضافة إلى تطور العلاقات الخارجية بشكل متصاعد مع القوى الفاعلة على المسرح الدولي، حيث الدور الكبير الذي يتهيأ له في المسرح الاقليمي في ظلّ حالة السيولة السياسية التي تضرب أرجاء الاقليم، والسّعي الذي يبديه الزعيم نحو إجراء تعديلات جوهرية، مع دول أخرى ذات أوزان كبيرة، على بنية النظام الدولي القائم.