20.55°القدس
20.36°رام الله
19.42°الخليل
25.21°غزة
20.55° القدس
رام الله20.36°
الخليل19.42°
غزة25.21°
الأحد 06 أكتوبر 2024
5جنيه إسترليني
5.38دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.19يورو
3.81دولار أمريكي
جنيه إسترليني5
دينار أردني5.38
جنيه مصري0.08
يورو4.19
دولار أمريكي3.81

تحولات الفكر السياسي الأميركي

عبد الستار قاسم
عبد الستار قاسم
عبد الستار قاسم

غالبا يسبق التغير التغيير، ويضغط التغير على الأمم والأشخاص والجماعات حتى يحصل التغيير. التغير موضوعي ويحصل بسبب تبدل الأحوال مع الزمن على مختلف مستويات الحياة. أما التغيير فذاتي ويقوم به الإنسان بصورة متعمدة ومن رؤية مسبقة لما يجب أن تكون عليه الأوضاع.

يطرأ تبدل مستمر على حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية، وعلى العلاقات العامة فيما بينهم، وتتبدل العادات والتقاليد والقيم الأخلاقية والوطنية، وتتغير أنماط الحياة والوسائل التقنية والمصادر المعرفية وعادة يتأقلم الناس تدريجيا مع كل تبدل، وينسجون لأنفسهم بصورة مستمرة أنماط حياة متواكبة مع التبدل الذي لا يتوقف أبدا، وهم يحرصون دائما وبصور تلقائية على أن يبقى نمط حياتهم متكاملا، ويعملون على سد الثغرات الاجتماعية والأخلاقية التي تطرأ بصورة تلقائية أيضا. الناس عادة لا ينتظرون قرارات من سلطات لكي يتأقلموا مع المستجدات، إنما تضغط المستجدات بثقلها من أجل أن يبقى البناء الفكري والأخلاقي متناسبا مع الجديد.

 

وبسبب التغير تجد الحكومات والمؤسسات نفسها أمام ضغط جماهيري واع أو غير واع لكي تتناسب القوانين والتعليمات والضوابط العامة مع تداعيات التغير. أي لا مفر أمام الدولة بمختلف أركانها إلا أن تتعمد إحداث التغييرات الإدارية والسياسية والقانونية والأخلاقية التي من شأنها أن تستوعب الطلبات التي يفرضها التغير. والدولة العاقلة التي تعتمد التفكير العلمي وتؤمن بالتخطيط وفق آفاق المستقبل المتوقعة لا تحتاج لأن تنتظر التغير لكي يضغط عليها، إنما تسعى باستمرار لدراسة مختلف الأوضاع في الدولة وتستبق الحدث فتتعمد وبصورة مخططة مسبقا على إحداث التغييرات المختلفة لكي تستوعب المستقبل.

"وجدت أميركا نفسها رائدة العالم بعد الحرب العالمية الثانية بسبب قدراتها العسكرية والاقتصادية، ولم يكن العالم على قدر التحدي لسلطانها إلا بعدما طورت بعض الدول بخاصة الاتحاد السوفييتي قدرات نووية رادعة قادرة على ليّ العضلات الأميركية"

ولكي تكون الصورة أكثر وضوحا أسوق أمثلة: اندفع العالم نحو عقد اتفاقيات تخص أسلحة الدمار الشامل لأن وجود هذه الأسلحة فرض نفسه على كل الدول ودعاها لتدير شؤون السلاح بصورة عقلانية؛ واعتمدت الدول تشريعات تخص المرأة والفقراء والعاطلين عن العمل، واضطرت كل الدول أن تعيد النظر في خططها لفتح الشوارع والطرقات العامة بسبب ضغط الكم المتزايد من وسائل المواصلات.. الخ.

أميركا تستجيب للتغيرات

لا تشذ الولايات المتحدة عن غيرها من الدول، بل ربما تكون هي أكثر دولة تعرضا لضغوط التغير بسبب تطورها التقني السريع والذي يفرض أوضاعا جديدة باستمرار. وواضح أن الدول المتطورة علميا وتقنيا قد صنعت مجتمعات تتقبل التغيير المتناسب مع التغير، وهي لا تلاقي صعوبة كبيرة في إحداث التحولات الاجتماعية والأخلاقية المتناسبة مع الحقيقة العلمية وما يرافقها من تطورات تقنية.

لكن هذه الدول تلاقي صعوبات في إدراك التحولات العالمية، وغالبا ما تتعثر في سياساتها الخارجية، وتفشل في كثير من الأحيان في إيجاد نقطة التوازن بين التغير الذي يطرأ على الساحة العالمية والتغيير المطلوب في أداء سياساتها الخارجية.

وجدت أميركا نفسها رائدة العالم بعد الحرب العالمية الثانية بسبب قدراتها العسكرية والاقتصادية، ولم يكن العالم على قدر التحدي لسلطانها إلا بعدما طورت بعض الدول بخاصة الاتحاد السوفييتي قدرات نووية رادعة قادرة على ليّ العضلات الأميركية. ومنذ العام 1945 بقيت الولايات المتحدة زعيمة العالم على الرغم من التحديات التي كان يفرضها السوفيات. وعبر كل هذه السنوات، عمدت أميركا على وضع أنفها في كل شق أو مشكلة تستجد على الساحة الدولية.

لقد بسطت أذرعها على مختلف مناطق العالم مستعينة بمقدراتها الاقتصادية والعسكرية. لكنها لم تتوقف لتفكر بالمسؤوليات الملقاة على عاتقها، واستمرت في حصر نفسها بمصالحها الخاصة حتى لو كان ذلك على حساب الشعوب الأخرى. وبدل أن تكون قيادة عالمية تعمل على إحقاق الحق ونشر العدل في العالم، أخذت تتصرف كبلطجي أو أزعر يحمل أسلحته على ظهره ويطوف العالم مهددا ومتوعدا، ويضرب هذا حينا ويعاقب ذاك ويفرض إرادته على الأمم. بقيت الولايات المتحدة تعيش أجواء الحرب العالمية دون أن تكترث كثيرا بما يطرأ من تغيرات على الساحة الدولية حتى باتت تعاني من كراهية شعوب وأمم كثيرة لها. ولم يتمسك بها كقائدة للعالم إلا المستفيدون الذين رأوا انهيارهم الأمني والمالي بدون الخضوع لها.

العولمة الأميركية

لم تتوقف أميركا عند دورها العالمي لتقييمه ومعرفة آراء الأمم حول هذا الدور، بل صعدت جشعها في الهيمنة على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان يكبح طموحاتها في السيطرة وذلك من خلال برامجها لعولمة العالم وفق مقتضيات الثقافة والفكر الأميركيين. فكرت أميركا أن تخرج من طور الإمبريالية أو الاستعمار عن بعد إلى طور نشر الثقافة والفكر الأميركيين لتصبح شعوب الأرض أميركية بالتربية وليس بالتبعية الاقتصادية أو الهيمنة العسكرية. وبدأت الآلة الفكرية والعلمية الأميركية تعمل ليلا ونهارا على تطوير البرامج التي من شأنها أن تحقق الهدف اعتمادا على قدرات أميركا المالية. بدأت أميركا تضع الكثير من القيود والتعليمات والضوابط لسلوك الدول، وأخذت تقيم الجمعيات والمنظمات غير الحكومية في أغلب بقاع الأرض لكي تطمئن إلى نشر ثقافتها وفكرها على أيدي خبراء محليين يؤمنون بالعلوّ الأميركي.

"لم تتوقف أميركا عند دورها العالمي لتقييمه ومعرفة آراء الأمم حول هذا الدور، بل صعدت جشعها في الهيمنة على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان يكبح طموحاتها في السيطرة وذلك من خلال برامجها لعولمة العالم وفق مقتضيات الثقافة والفكر الأميركيين"

بدت أميركا حذرة بعد هزيمتها في فيتنام، وتطورت لديها مشاعر الإحباط وضرورة ممارسة ضبط النفس، لكنها خرجت عن طورها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي واتبعت عدة سياسات للهيمنة على العالم وهي:

1- استعمال المساعدات المالية لفرض إرادتها على دول كثيرة ضعيفة اقتصاديا ومنها دول عربية.

2- فرض الإرادة من خلال توفير الأمن لأنظمة سياسية متخلفة أو غير قادرة على حماية نفسها مثل عدد من الدول العربية.

3- استعمال العقوبات المالية والاقتصادية وما شابهها على الدول لكي تستسلم للإرادة الأميركية والغربية بصورة عامة كما حصل مع ليبيا والسودان وإيران وغيرها من الدول.

4- استعمال القوة العسكرية المباشرة وذلك بإرسال الجنود إلى مناطق التوتر أو مناطق متمردة على الإرادة الأميركية والانشغال بالحروب كما حصل في أفغانستان والعراق.

5- إقامة الجمعيات غير الحكومية لإعادة تثقيف شعوب الدول الأخرى وتشريبهم بالثقافة الأميركية.

الفشل الأميركي

فشلت أميركا في عدد من المواقع وعدد من السياسات، أشير هنا إلى عدد منها:

على المستوى الداخلي، فشلت أميركا في ضبط أوضاعها الاقتصادية والمالية، ولم تستطع تقليص التوجهات العنصرية التي ما زالت موجودة في الولايات المتحدة. اضطر هذا الوضع الأميركيين وعلى رأسهم كبار منظري الرأسمالية إلى اعتماد تدخل الدولة في النظامين المالي والاقتصادي بعد أن كان مبدأ إبعاد الدولة عن هذين المحورين مبدأ رأسماليا مقدسا. تدخلت الدولة بقوة من أجل إنقاذ الوضع المالي وتنشيط الاقتصاد حتى لا تدخل في كساد اقتصادي ومالي يؤدي إلى انهيار عالمي. وقد قبل الشعب الأميركي توجهات الحكومة وتشجيع الخبراء لسياسات جديدة. أضعف هذا الأمر النظرية الرأسمالية، ودعا إلى ضرورة اتباع سياسات مالية واقتصادية جديدة تحول دون هزات عالمية جديدة.

أما خارجيا فتم تسجيل عدة أنواع من الفشل وهي:

أولا: فشل الحرب على الإرهاب، وبدل أن تقلص أميركا النشاطات الإرهابية التي تهددها كما تهدد غيرها من الدول، انتشر الإرهاب بالمزيد على المستوى العالمي، ولم تعد دولة في الأرض آمنة على نفسها من الأعمال الإرهابية. أميركا صنعت الإرهاب، وهي التي وجدت نفسها تحاربه بعد سنوات. وهكذا صرحت كلينتون أثناء حملتها الانتخابية عندما أشارت إلى أن أميركا هي التي مولت الإرهاب الذي تحاربه الآن. لقد دفع الأميركيون الكثير من الأموال في تغذية الإرهاب وفي محاربته، ودفعوا الآلاف من أبنائهم الذين قتلوا في العراق وأفغانستان، واضطروا إلى مواجهة إجراءات داخلية تحد من حرياتهم.

وبسبب فشل الحرب على الإرهاب وما ترافق معها من حروب في المنطقة العربية الإسلامية تطور موقف شعبي أميركي مناهض للحروب وإرسال جنود أميركيين إلى الخارج. لقد ملّ الأميركيون الحروب وسئموها، وأيقنوا أن لا فائدة ترجى منها، فلم يعودوا يتحمسون للقتال خارج بلادهم. وربما هذا ما ردع الرئيس الأميركي عن شن حروب على إيران وسوريا. ربما حسب أن التحرك الشعبي الداخلي سيكون ضد حربين جديدتين فجنح نحو أساليب ووسائل قد تكون نافعة. أساليبه الجديدة فشلت ولم تحقق نتائج إيجابية للولايات المتحدة، لكن الأمر كان من غير الممكن أن يكون غير ذلك فيما لو تدخلت أميركا عسكريا بصورة مباشرة.

ثانيا: فشل العقوبات على الدول. كانت تهدف أميركا والدول الأوروبية التي شاركتها إلى إركاع الأنظمة السياسية المتهمة بأنها دول شر أو دول حاضنة للإرهاب، وتثوير سكانها ضد نظام الحكم القائم. لم تستطع العقوبات إركاع أي دولة ولم يثر أي شعب ضد نظام الحكم بسببها. كل ما فعلته أميركا وأوروبا هو تهديد أمن الناس ولقمة خبزهم، وجنت كراهية الناس ورفضهم للسياسات الخارجية التي تتدخل في شؤونهم. هذا فضلا عن أن العقوبات ألحقت خسائر كبيرة بالاقتصادات الغربية بسبب خسران أسواق هامة مثل سوقي العراق وإيران.

"الأميركيون وخاصة الأكاديميون وقادة الفكر والرأي العام سيراجعون أنفسهم. ستكون هناك إعادة نظر في النظام الرأسمالي التقليدي، وستدخل إليه بعض الأفكار الجديدة التي توسع دور الدولة في تنشيط الاقتصاد والحفاظ على التوازن المالي"

ثالثا: ارتفاع منسوب الإحباطات الأميركية على المستوى الداخلي.

أدى الفشل على الصعيد الخارجي إلى إحباط الجمهور الأميركي، وإلى اهتزاز ثقتهم بقياداتهم السياسية. ترسخ انطباع لدى الأميركيين أن القيادات السياسية فاشلة وهي حريصة على مصالحها الشخصية ومصالح الرأسماليين أكثر مما هي حريصة على مستقبل البلاد. وتعزز الظن الشعبي بأن القيادات السياسية كاذبة، وهي لا تفي بوعودها للناس. هذا فضلا عن أن مستوى الرفاهية الأميركية قد انخفض، وتقلصت الرواتب، وازدادت أعداد العاطلين عن العمل. علما أن الموضوع الاقتصادي هو أكثر ما يؤثر بقرارات الفرد الأميركي وتوجهاته ومستوى انتمائه لبلده.

وقد لاحظ المتتبعون للأوضاع الداخلية الأميركية أن الإحباط قد تمت ترجمته في تكاثر الأمراض الاجتماعية وعلى رأسها المخدرات والعنصرية والقتل الجماعي بلا سبب. ارتفعت أعداد الذين يتعاطون المخدرات والذين من شأنهم أن يكلفوا الخزينة الأميركية الكثير من الأموال، واصطدم الأميركيون من أصل أفريقي مع الشرطة مرارا، واضطرت بعض المدن أن تعلن حظر التجول في بعض الأحيان. كما أن أميركا أخذت تعاني من تزايد أعداد الذين يفتحون النار من بنادقهم على الناس العاديين في الأسواق والمدارس ومواقف السيارات. أي أن أميركا طورت إرهابها الخاص وتكاد تنفرد به من بين الأمم.

توقعات

الأميركيون وخاصة الأكاديميون وقادة الفكر والرأي العام سيراجعون أنفسهم. ستكون هناك إعادة نظر في النظام الرأسمالي التقليدي، وستدخل إليه بعض الأفكار الجديدة التي توسع دور الدولة في تنشيط الاقتصاد والحفاظ على التوازن المالي. وستحصل مراجعات للفكر القائم على سطوة أميركا وهيمنتها، وكثيرون سيتنازلون عن عظمة أميركا الفكرية وحقها في قيادة العالم. وستنهمك أميركا في البحث عن أساليب ووسائل للتخلص من الدين العام الذي يصل إلى التريليونات.

من المحتمل أن نشهد توجها فكريا جديدا من شأنه تقدير الدول الأخرى والتعامل معها باحترام وليس بالعربدة. العنجهية الأميركية ستتقلص، وستسلم أميركا للعالم بأنها ليست القطب الوحيد وستعود إلى عهد احترام الثقافات والحضارات الأخرى.