رغم انتهاء فصل الصيف، وبدء هطول الأمطار، إلا أن المواطنين بمن فيهم المزارعون ومربو الثروة الحيوانية والطيور في قرى شمال غرب نابلس وتحديدا قريتي "برقة" و"بزاريا"، يعانون من استمرار انقطاع المياه عنهم.
المشكلة امتدت أيضا لتطال قرى وبلدات في المنطقة الشرقية، مثل بلدة بيت فوريك وقرية "بيت دجن"، رغم وجود آبار للمياه في المنطقتين، إلا أن الحصص المخصصة لتلك القرى والبلدات لم تعد كافية، في ظل ازدهار الزراعة، والإقبال على تربية المواشي، إضافة لارتفاع أعداد السكان، والتوسع العمراني لها.
المتهمون كُثر..
المتهم الرئيس والأول هو الاحتلال الإسرائيلي الذي يسيطر على مصادر المياه في كل الضفة الغربية، وقد أقام مستوطناته قربها، ووضع يده تقريبا على معظم الآبار الجوفية والسطحية، حتى في المناطق المصنفة "أ"، حسب اتفاق أوسلو..
المتهم الثاني، هي سلطة المياه الفلسطينية، فهي التي تحدد كميات المياه الواصلة للبلدات والقرى، ويعاونها في ذلك البلديات الكبرى، مثل بلدية نابلس، وهي المتهم الثالث في هذه القضية، إذ أنها هي التي تدير معظم الآبار في محافظة نابلس، حتى تلك الموجودة في القرى، وتوزع الكميات حسب العلاقة التي تربطها برؤساء وأعضاء المجالس، فإذا كانت العلاقة جيدة، كانت حصة المياه كبيرة، والعكس صحيح.. وهو طبعا ما تنفيه البلدية بشكل قاطع.
ومن المعروف أن قطاع المياه في فلسطين يواجه مشكلة حادة ومتراكمة لسد الاحتياجات المنزلية والصناعية ومياه الشرب والزراعة، وتزداد هذه المشكلة حدة سنة بعد أخرى نتيجة لازدياد عدد السكان، وتراجع معدلات مياه الأمطار، واستمرار الإسرائيليين باستغلال ونهب المياه الفلسطينية.
أصل المشكلة
مراسل "فلسطين الآن" يتابع هذه القضية منذ أكثر من شهرين تقريبا، وبالتحديد مع إطلاق الإغاثة الزراعية لحملة إعلامية وشعبية ضخمة للمطالبة بتوزيع عادل للمياه في البلدات والقرى، وأن لا يكون حل مشكلة في المدينة أو غيرها من البلدات على حساب مواقع أخرى.
يقول مدير الإغاثة الزراعية في محافظة نابلس ضرار أبو عمر إن هناك أسباب كثيرة لشح المياه، يأتي في مقدمتها الاحتلال الإسرائيلي وسياساته الجائرة.. "فرغم وقوعها على حوضي المياه الشرقي والشمالي الشرقي، إلا أن محافظة نابلس تعتبر من أفقر محافظات الضفة الغربية بالمياه، بسبب سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على مصادر المياه وتحكمها في كمية المياه التي يحصل عليها الفلسطينيون".
وترجع مشكلة المياه في نابلس إلى عدم وجود آبار تم حفرها قبل عام 67 مثل ما هو موجود في محافظات أخرى كطولكرم وقلقيلية وجنين، وبعد احتلال الضفة منع الاحتلال حفر أية آبار جديدة في كافة أنحاء الضفة ومنها نابلس.
واتبعت سلطات الاحتلال سياسات ظالمة ومجحفة أدت لنقص حاد في المياه للاستخدام المنزلي وللزراعة، وبعد اتفاق أوسلو عام 1993 تفاقم الوضع نتيجة سيطرته على مصادر المياه.
يقول أبو عمر "أصبحت 85% من مياه الضفة تحت سيطرة الاحتلال، وما تبقى وهو حوالي 15% تتشارك به "إسرائيل" مع الفلسطينيين، ولا تعطيهم سوى خُمس الكمية المتعارف عليها عالميا".
وانعكست هذه السياسات المجحفة على الزراعة، وأدت إلى تراجع المساحات المزروعة، وهجرة الناس لأراضيهم وتحويل كميات كبيرة من المياه للمستوطنات الإسرائيلية... الاحتلال يهدف من خلال سيطرته على مصادر المياه إلى تهجير المزارعين تقليص المساحات المروية التي تشكل سلة الغذاء الفلسطيني".
توزيع عادل
ليس الاحتلال وحده من يحمله المواطنون المسئولية، فسلطة المياه والبلديات يقع على عاتقها جزء من حل المشكلة. فإلى الشمال الغربي لنابلس ثمة ثمان قرى تعاني شحا في كميات المياه، هي: برقة، وبزاريا، وسبسطية، وبيت امرين، واجنسنيا، ونصف اجبيل، والناقورة، ودير شرف.
ويعود شح المياه بشكل رئيس إلى سيطرة الاحتلال على مصادر المياه وتحكمه في كمية المياه التي تضخ لهذه القرى، أما السبب الثاني فهو توزيع كميات المياه المتاحة بطريقة غير عادلة.
وتحصل قريتا برقة وبزاريا على المياه من بئر "بيت ايبا" الذي تقع مضخاته داخل أسوار مستوطنة "شافي شمرون"، إذ يتلاعب المستوطنون في فتح وإغلاق المحابس خاصة في الصيف، وهو ما يؤدي إلى مشاكل اجتماعية وخسائر اقتصادية فادحة لمربي الثروة الحيوانية. فيما تحصل القرى الست الأخرى على مياهها من بئر سبسطية الذي يعود لبلدية نابلس ويقع بأراضي منطقة المسعودية التابعة لبرقة، في حين تراجعت إنتاجية ينابيع المياه المحلية بشكل كبير في السنوات الأخيرة، ولم تعد قادرة على سد احتياجات المواطنين المتزايدة.
تحركات شعبية
ومن أجل هذا نظمت الإغاثة الزراعية بالشراكة مع المجالس القروية في تلك القرى، وخاصة برقة وبزاريا سلسلة اعتصامات وفعاليات. بدأت عند بئر المسعودية (سبسطية) نهاية الشهر الماضي (نوفمبر) للمطالبة بحصة للبلدتين من مياهه.
أبو عمر مدير الإغاثة أشار إلى أن مشكلة المياه أدت إلى ارتفاع أسعارها وتدني كميتها التي تباع لهذه القرى من بئر سبسطية، وهو ما أثر بشكل كبير على تلك القرى، وخاصة بزاريا التي تعد من أغنى القرى بالثروة الحيوانية، حيث يوجد بها حوالي 12 ألف رأس ماشية و100 ألف طير حبش ودجاج.
وأوضح أن حصة الفرد من المياه في بزاريا مثلا تبلغ 30 لتراً، لكن إذا تم احتساب استهلاك الثروة الحيوانية منها، تصبح حصة الفرد بالسالب.
وقال إن المواطنين توجهوا للمجالس القروية والإغاثة الزراعية مطالبين بالتحرك لإيجاد حل لمشكلة المياه، خاصة بعد رفع سعر كوب المياه من بئر المسعودية إلى 10 شيكل، والطلب من المجالس القروية تحديد أصحاب الصهاريج الذين يسمح لهم بالتعبئة من البئر وتم تحديد حصة شهرية لكل صهريج مقدارها 15 كوبا فقط.
وأضاف أنه بعد التوجه إلى بلدية نابلس، أعادت سعر الكوب إلى 6 شيكل، معتبرا أن هذا السعر لا زال مرتفعا حيث يباع كوب المياه لمربي الثروة الحيوانية في طولكرم بسعر 3 شيكل.
من جهته، يقول رئيس مجلس قروي برقة سامي دغلس إنه تم استثناء برقة وبزاريا من حصتهما في بئر سبسطية الذي يغذي مدينة نابلس، رغم أنه يقع بأراضي برقة، التي يصل تعداد سكانها حاليا إلى 4500 نسمة حسب تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء، وهي تحصل على 14 كوبا بالساعة، أي أن حصة الفرد حوالي 74 لتراً باليوم، وهذا اقل من المتعارف عليه عالميا الذي يصل إلى 100 لتر حسب منظمة الصحة العالمية، ما نتج عنه عدم وجود زراعات مروية بالمنطقة، كما يترتب عليه مشاكل اجتماعية.
الحل لدى سلطة المياه
وعلى ذلك، يرد مدير قسم المياه في بلدية نابلس المهندس عماد المصري الذي حضر لموقع الاعتصام، موضحا أن البلدية لا تستطيع حل المشكلة، لأن مصادرها محدودة جدا، مرجعا سبب المشكلة إلى انخفاض منسوب المياه، ما تسبب بنقص عام فيها، ما يتطلب تدخل سلطة المياه باعتبارها الجهة الخولة بتقسيم الحصص بين التجمعات السكانية.
وعبر عن قناعته بوجود مشكلة مياه حقيقية في هذه القرى، مشددا على أن بلدية نابلس لا تعتبر أنها أحق بالمياه من أي قرية أخرى، لأن هذه المياه هي ملك للشعب الفلسطيني، والبلدية أكدت منذ حفر البئر قبل عدة سنوات أنه لكل الشعب الفلسطيني، لكن هناك جهة منظمة هي سلطة المياه، وهذا الاعتصام يجب أن يستكمل بتشكيل لجنة للتوجه إلى سلطة المياه والحكومة.
وهذا بالضبط ما جرى، فقد نظمت الإغاثة الزراعية بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المحلي في القرى المستهدفة وقفة احتجاجية أمام مجلس الوزراء في رام الله خلال عقده لجلسته الأسبوعية الثلاثاء الماضي، للمطالبة بزيادة كميات المياه المخصصة لكل قرية.
بيت فوريك وبيت دجن
ومن الشمال الغربي إلى الشرق، حيث قرية بيت دجن وبلدة بيت فوريك، اللتان تتشاركان منذ ما يزيد عن 10 سنوات ببئر مياه يعد المصدر شبه الوحيد فيهما، وسنة بعد سنة تزداد مشكلة المياه تفاقما مع زيادة أعداد السكان من جهة، وتناقص إنتاجية البئر من جهة أخرى. فبعد أن كان معدل الإنتاج يصل إلى 65 متر مكعب بالساعة، انخفض الآن إلى 30 كوب.
وعانت البلدتين طيلة فصل الصيف، وحتى وقت قريب من انقطاع المياه عن منازل المواطنين، إذ لم تصل لمعظمها، أو أنها تكون ضئيلة جدا ولا تغطي النقص الحاصل.
يقول مدير مجلس قروي "بيت دجن" ناصر أبو جيش أن مشكلة المياه في البلدة بدأت مبكرا هذا العام، نظرا لقلة كميات الأمطار التي لم تكف لملء آبار الجمع التي عادة ما تفرغ بنهاية فصل الشتاء. لافتا إلى أن المجلس القروي طرق كل الأبواب لحل هذه المشكلة، لكن دون جدوى، حتى وصل بهم الأمر للطلب من سلطة المياه ودائرة مياه الضفة الغربية بربطهم بخط شركة "ميكروت" الإسرائيلية الذي يغذي مستوطنة "ألون موريه" الذي لا يبعد في أقرب نقطة عن بئر بيت فوريك سوى 300 متر.
لكن سلطة المياه وعدت بمد خط ناقل من بئر روجيب الذي يبعد حوالي 10كم عن البلدة، لكن ذلك اصطدم بتعنت الاحتلال الذي يرفض بحجة أن الخط سيمر بمناطق C وسيقطع الشارع الالتفافي.
مصادر المياه
وتتكون مصادر المياه في فلسطين التاريخية من مصدرين أساسيين، هما: المياه السطحية مثل الأنهار والأودية المائية، والمياه الجوفية والينابيع، وهذه المصادر بدورها تتشكل بسبب الأمطار الهاطلة على السلاسل الجبلية في فلسطين، إذ تعد الأمطار المغذي الرئيس لهذين المصدرين.
وهناك العديد من المصادر المائية التي تستمد مياهها من خارج حدود فلسطين التاريخية، أي من الأقطار العربية المجاورة كالأردن ولبنان وسوريا، وتستغل هذه الدول جزءا من هذه المصادر، ألا أن الجزء الأكبر من هذه المياه يستغلها الاحتلال الإسرائيلي.
ويبلغ معدل كميات المياه التي تنتج من الأمطار السنوية التي تسقط داخل حدود الضفة الغربية ما بين 578-814 مليون متر مكعب في السنة وفق معطيات سلطة المياه الفلسطينية، وإذا أضيفت إليها حصة فلسطين في نهر الأردن والمقدرة بحوالي 250 مليون متر مكعب، باعتبار أن فلسطين طرف مشاطئ وشريك كامل في هذا الحوض، فإن حجم المصادر المائية المتجددة تصل سنوياً إلى معدل 1000 مليون متر مكعب.
وهذه الكميات تكفي بحسب الخبراء لسد حاجة الفلسطينيين لخمسين سنة قادمة بدون أية مشاكل وعلى أساس 170 ليترا للفرد في اليوم، في حين لا تصل حالياً سوى 40 لتراً للفرد في اليوم فقط.
أما الوضع المائي في قطاع غزة، فقد أصبح خطيرا جدا بسبب ازدياد تركيز الملوحة واتساع مناطق التلوث عضوية وغير عضوية، وهناك حالة استنزاف لأحواض المياه الجوفية، إذ يتم ضخ كميات بنسبة تزيد على 120% من الطاقة السنوية المتجددة.