بوجهه الشاحب، وجسده الذي أضناه التعب، يصل الشاب أيمن من مدينة يطا شمال الخليل إلى بيته، وقد أمضى يومه في عمله بجمع " الخردة"، من منطقة الخط الغربي لمحافظة الخليل، فكانت حصيلة يومه ما يقرب ـ200 كيلوغرام من النحاس والألمنيوم والحديد.
يتجول الشاب أيمن محمد، بسيارته القديمة، في شتى مدن وقرى محافظة الخليل، يجمع الخردة ليعاود بيعها لكبار تجار المعادن. مسح أيمن جبينه المتصبب عرقاً بقطعة قماش أصابها الصدأ، تمتم بكلمات حمد الله فيها، وقال: الحمد لله الذي يسر لنا ما جمعنا من "الخردة" لبيعها، وسد لقمة عيش الأهل والعيال".
للفقير والغني
يقول أيمن، في حديثه لـ"فلسطين الآن":" تجارة الخردة، ليست للفقراء أمثالنا فقط، بل هناك الكثير من الأغنياء الذين يعملون بها، وتعتمد إلى حد كبير على الحظ، فالكميات التي تصادفها في رحلة بحثك عنها في علم الغيب، كما أن أسعار معادن الألمنيوم والنحاس والحديد التي نبحث عنها شديدة التذبذب"، وأضاف ضاحكاً: " وعليه فقد تصبح "مليونيراً" في غمضة عين".
يتحدث أيمن لـ"فلسطين الآن"، وقد خضبت يديه بزيت السيارات، وابتل رأسه بماء "الروديتر"، وهو يحاول بسط سيطرته على محرك سيارة سوبارو قديم اشتراه في رحلة بحثه عن المعادن، وهو الآن يحاول أن يفككه بحثا عن الكنز الثمين، مادة الألمنيوم في رأس "الموتور"، حسب تعبيره.
ولفت ضيفنا، بأن كل يوم خميس، يذهب إلى مكان البيع، على تجار معروفين، ويعرض ما جمعه من خردة، ويبيعها بالسعر المناسب، ويعود حاملا ماله الذي اكتسبه من عرق جبينه على مدار أسبوع من البحث المضني.
من الصفر
محمد أبو عرام، رجل مسن من مدينة يطا، وهو والد أحد تجار الخردة، يقول لـ"فلسطين الآن":" تجارة الخردة، تجارة العشاق، فكل التجار الذين ذاقوا لذتها يتمسكون بها، ويجيدون معرفة أسرارها، فمعرفة المعادن الجيدة وأسعارها وأوقات بيعها بربط هذه الأوقات مع ارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية أو انخفاضها، كلها أسرار يجب على تاجر الخردة معرفتها بإتقان ليستطيع رفع مكسبه من هذه التجارة للحد الأعلى".
ويستذكر محمد كيف بدأ أول أيام عمله قبل عشر سنوات في جمع علب الحديد "الكولا" وأسلاك النحاس المترامية على أرصفة الطرقات وأمام المنازل، وبأن هناك سر يكمن في هذه التجارة.
ويعبر السيد محمد عن حبه الشديد للخردة، وكيفية توريثها لابنه، وعن كيفية امتزاجهم بها، لأنها ببساطة تبعد كثيراً عن "وجع الراس"، والالتحام مع الناس حسب تعبيره .
ويقول: صحيح أن لها أسرارا، لكن تجارتها بسيطة وسهلة، فالمطلوب فيها جمع السلع عديمة الفائدة لأشخاص أو جهات محددة، ومن ثم بتدويرها لتصبح سلع ذات قيمة كبيرة يتم بيعها لشخص آخر. فمثلا، نشتري غسالات وثلاجات، تم الاستغناء عنها من أصحابها لعطل أصابها، ونبيعها لمصانع التدوير فيحولونها لسلعة جيدة وأغلى ثمنا وأفضل جودة.
التجارة شطارة
ويعبر مجاهد، وهو تاجر محنّك في بلدة اذنا غرب الخليل، عن نهمه الكبير وولعه بتجارة الخردة، لافتاً إلى ضرورة أن يكون التاجر متقلدا سيف الفهم والحنكة في التجارة.
وحسب تعبير مجاهد، فإن السوق مليء بالحيتان " التجار الكبار المتمرسون"، وعلى شاكلتهم هناك كثير، لا يخافون الله في تجارتهم، وبالتالي، يجب أن يكون تاجر الخردة خصوصاً على أهبة الاستعداد في كل النواحي من حيث درايته بأسرارها، وإلمامه بأنواعها لكي لا يكون ضحية لهم .
ويلفت مجاهد إلى أن هذه التجارة سهلة ورأس مالها بسيط، ومصدر رزقها جيد، لكن من أهم الضروريات بأن يكون الشخص فطناً، وذكياً، وحاذقاً.
يذكر بأن العمل بتجارة الخردة ظهر في فلسطين منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، ثم انتشرت مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000م في العديد من المدن والبلدات والمخيمات الفلسطينية؛ لا سيما في الضفة الغربية؛ وتحديدا في محافظة الخليل، التي تستأثر بنسبة 40% من حجم هذه التجارة حسب إحصاءات غرفة صناعة وتجارة الخليل عام 2014م؛ في حين شكلت تجارة الخردة 60% من اقتصاد بلدة إذنا في العام 2014 حسب مجلسها البلدي؛ أما إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني فأظهرت أن ثاني أهم السلع الصادرة من فلسطين كانت خردة الحديد بنسبة 18% من إجمالي قيمة الصادرات لعام 2011م.