19.46°القدس
19.41°رام الله
18.3°الخليل
25.96°غزة
19.46° القدس
رام الله19.41°
الخليل18.3°
غزة25.96°
الإثنين 30 سبتمبر 2024
4.99جنيه إسترليني
5.27دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.17يورو
3.73دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.99
دينار أردني5.27
جنيه مصري0.08
يورو4.17
دولار أمريكي3.73

شركات عالمية تخطت 100 عام.. كيف حافظت على نجاحها؟

4c61b92b-8728-4c46-b563-5d6b95415d55
4c61b92b-8728-4c46-b563-5d6b95415d55

لا شك أن العقود القليلة الماضية جعلت عالم ريادة الأعمال يحمل عمقا تقنيا؛ فمع انتشار حركة تأسيس الشركات الناشئة عالميا المرتبطة بالخدمات الحوسبية في كافة المجالات بلا استثناء تقريبا، أصبح مفهوم الريادة يتجاوز "البيزنس" التقليدي إلى ما هو أبعد، يتجاوزه إلى ضرورة إنتـاج فكـرة أو آلية أو خدمة جديدة -أو على الأقل غير تقليدية- تقدم حلولا مبتكـرة للسوق سواء في إضافة ميزات جديدة أو حل مشاكل مزمنة.

ومع ذلك، يؤكد التاريخ أن هذه "الحالة الريادية" من البيزنس المقتـرن بالأفكـار والخدمات الجديدة ليست حكـرا على الوقت الحالي، وأن التاريخ يضم في طيـاته نماذج مبهـرة لشـركات بدأت ناشئة وتحولت إلى عمـلاقة وما زالت تعيش حتى يومنا هذا بكامل بريقها ويختلط اسمها دائما بالريادة والابتكـار رغم تجاوز عمـرها المائة عام.

في هذا التقرير نستعرض ثلاث شـركات تعود إلى القرن التاسع عشر، نسلط الضوء على بداية هذه الشركات، وكيف استطـاعت البقاء والتأقلم ثم التضخم لاحقا لتتحول إلى أيقونات عالميـة راسخة في الأسواق بعد مرور أكثر من قـرن على تأسيسها ورحيل أصحابها منذ وقت طويل.

  نستلــه.. فلنفعل شيئا لإنقاذ الأطفال

في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فتح هاينـريش عينيه ليجد نفسـه منتميا لأسرة ألمـانية عريقة في فرانكفــورت الألمانية تحمل اسم "نستله"، وهو الاسم الذي سيخلده التاريخ طويلا في وقت لاحق. أسرة هائلة تضم 14 أخا وأختا، طبعا أسرة بهذا العدد في هذا الزمن كان لا بد أن يموت عدد من أطفـالها بسبب سوء التغذية، خصوصا مع انتشار الأمراض التي تصيب الأطفال تحديدا وغياب النظـافة والأساليب الصحيحة في التغذية والمتابعة.

     عمل هاينريش مع والده في ورشته الصغيرة لتصنيع الزجاج، ثم ارتحل إلى سويسـرا ليحصل على دورة تدريبية طبية أهّلته أكاديميا ووظيفيا للعمـل كمساعد صيدلي في إحدى الصيدليات السويسـرية، مما أتاح له فرصة واسعة للبدء في تصنيع العقاقير الطبية وبيعها والتوسّع في مجال صناعة الأدوية بشكل علمي منهجي وفقا للمتاح وقتئذ. وبعد فتـرة من العمـل في الصيدليـات، قرر هاينـريش أن يشتـري مصنعا صغيـرا جهــزه لصنـاعة وبيع بعض الزيوت والمنتجات الطبية والغذائية.

  في تلك الفترة، ومع استمرار ملاحظة هاينريش الدائمة لظاهرة موت الأطفال المبكـر -بحكم عمله كصيدلي-، قرر أن يبحث عن حل لهذه المشكلة بنفسه؛ خصوصا أن لديه إمكانيات جيدة من الأدوات في مصنعه تؤهله لعمل وصفـات مختلفة تعلّمها من ممارسته لصناعة العقاقير والأدوية. استطـاع بعد فتـرة أن يتوصل لإنتاج حليب صنـاعي مكون من الحليب البقري المجفف المخلوط بالقمح والسكر جعله غنيا بالمواد الغذائية ومشابها بشكل كبير لحليب الأم، وهو ما قد ينقذ حياة آلاف الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية.

   ومع عبقرية هذا المنتج وضمـانة انتشاره بشكل هائل في تلك الفترة، فإن تسويقه كان شديد الصعوبة بالنسبة لهاينريش. كان من الصعب جدا إقنـاع السوق بأن هذا الحليب مطابق لحليب الأم، ولاقى رفضا كبيرا في البداية بسبب عدم قدرة السوق على استيعاب وجود حليب من هذا النوع. في النهاية، ومع تبدد آمال هاينريش في نجاح المنتج، جاء الفرج على شكل طفـل صغير وُلد حديثا قبل أوانه، وقد بدى واضحا أن الطفل سيموت لا محالة بسبب سوء التغذية التي يعاني منها، مما جعل حالته ميئوسا منها تقريبا.

ومع فقدان الأمل في حيـاة الطفل، سمحت الأسرة لهاينريش أن يمنحه وصفة من حليبه الصناعي المجفف، فكانت النتيجة نجاته من الموت المحقق. فقط هذه الحادثة هي التي جعلت طلبات الشراء تتدفق بشكـل كبيـر على هاينريش لشراء حليبه الصنـاعي بعد أن بدا واضحا مدى قدرته على توفير العناصر الغذائية الأساسية للأطفال، وهو ما جعل اسم شركته ينتشر بشكل كبيـر وفي زمن قياسي.

كانت هذه هي اللحظة الحقيقية لميلاد شركته ذات المصنع الصغير التي أطلق عليها اسم عائلته "نستلــه" (Nestle). نستله التي تعتبر اليوم واحدة من أضخم شركات التغذية والمشروبات في العالم، إن لم تكن أكبـرها على الإطـلاق بالفعل.

بمرور الوقت، ومع تدفق طلبـات الشراء على منتجات الشركة، استطـاع هاينريش نستله أن يستمر في إنتاج وتطوير العديد من المنتجات الغذائية الصحية، حتى قام ببيعها -وهو في الستينيات من العمـر- عام 1875 بمبلغ مليون فرنك سويسري وهو ما كان يمثل ثــروة ضخمة هائلة في القرن التاسع عشر.

  وبعد وفاته في العام 1890، استمـرت نسلته من بعده في رحلتها كأكبر شركة عمـلاقة لإنتاج المنتجات الغذائية الصحية، حيث عملت على مدار القرن التاسع عشر والقرن العشرين بالكامل على تطوير آلاف المنتجات، وصل عددها حتى الآن إلى أكثر من 8500 منتجا تقوم بإنتاجها مئات المصـانع المملوكة لها، كما قامت بالاستحواذ على مئات الشركات المتخصصة في الأغذية والمشروبات حول العالم، وتحتل مقدمة الشركات العملاقة في البورصة السويسرية، ويعمل لديها أكثر من 300 ألف موظف حول العالم. ( 1، 2، 3 )

جـونسون آند جونسـون .. من أجل محاربة الجراثيم

كانت مفاجأة كبيـرة للعالم في القرن التاسع عشر عندما أعلن السير "جوزيف ليستر" حقيقـة علمية أن الالتهابات والأمراض يتسبب في نقلها الجراثيم والبكتيريا الدقيقة غير المرئية التي تكون عالقة بأدوات الجراحة والأجهزة الطبية، وأنها تتسبب في الكثير من الأمراض المُستشرية بين الناس، بل وموتهم بعد العمليـات الجراحية الناجحة.

    في تلك الفتــرة، مستلهمـا بالحقيقة العلمية التي قدّمها ليستر، أقدم روبرت وود جونسـون مع أخويه جيمس وإدوارد على اقتحـام هذا المجال بالعمل على تطوير أفكـار في مجال التعقيم، حيث فكّـروا جميعا في إنتاج ضمـادات معقمة يمكن استخدامها بشكل مباشر للتعامل مع الجروح؛ تحتوي على نسب أقل من الجراثيم القاتلة، يمكن على إثرها شفاء المرضى بشكـل أسرع دون مضاعفات جانبية من أي نوع.

وعلى الرغم أن الفكرة لم تكن واضحة تماما، فإن الإخوة الثلاثة أقدموا على تأسيس شركتهم في شقة صغيـرة في ولاية نيوجيـرسي الأميـركية، أطلقوا عليها الاسم الذي سيخلده التاريخ كواحدة من أهم شركات العالم في المجال الطبي والدوائي والأجهزة الطبية: شركة "جونسـون أند جونسون" (Johnson and Johnson). بدأت الشركة في عمل أبحاث مصغـرة في مجال صناعة الأدوات المعقّمة المضادة للبكتيـريا، لدرجة أن روبرت وأخَويه كانوا يعملون 12 ساعة يوميا للوصول إلى تركيب المنتجات المعقمة بأفضل شكل ممكن، ومن ثم العمل على تقديمها للمستشفيـات أو منافذ البيع العادية المتاحة للجمهور.

بعد عام واحد من إطلاق الشركة، وبحلول العام 1886 استطاعت الشركة أن تطلق أول منتجـاتها وهو "الضمادة اللاصقة" التي تحتوي على مواد معقمة؛ ساعدت بشكل كبير على عملية تسريع التئام الجروح دون تلوثها، وهو ما لاقى إقبالا هائلا من السوق وبدأ ينتشر بشكل كبير في كافة أنحاء البلاد، تبِعتْه مجموعة من المنتجات الأخرى التي أنتجتها الشركة مثل الزي الجراحي للأطباء، وغيرها من المنتجات.

بمرور الوقت، ومع غزو منتجات جونسون للأسواق، أسس الإخوة مجموعة من المختبرات لدعم البحوث ودعم إنتاج المزيد من المنتجات الطبية، حتى أصبح اسم الشركة هو الأول والرائد في مجال التعقيم وتوريد المنتجات الطبية للمستشفيات والعيادات الطبية.

  بقدوم القرن العشرين، ومع خلافة الإخوة لمنصب قيادة الشركة بعد وفاة أخيهم الأكبر روبرت جونسون، بدأ العمل على التوسّع خارج أميـركا لتظهر علامتها التجارية للمرة الأولى في بريطانيا عام 1924، وتساهم في دعم الإنتاج الطبي والعلاجي في أوروبا حتى في زمن الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها الملايين. وعلى مدار العقـود التالية، توسّعت الشركة لتتحول إلى واحدة من أكبر الإمبراطوريات الطبية في العالم تغطي مجال الأجهزة الطبية والأدوية والأدوات الصحية الاستهلاكيـة التي تشمل كل المنتجات تقريبا؛ بدءا من الاسعافات الأولية مرورا بالعقاقير والأمصال والعدسات اللاصقة والضمادات وأدوات التجميل وأدوات الأطفال وغيرها من المنتجات.

   اليوم، يبلغ عمـر شركة "جونسون أند جونسـون" العريقة 132 عاما، وتعتبر واحدة من أعرق وأقدم شركات العالم على الإطلاق، حيث تستحوذ الشركة على أكثر من 250 شركة تابعة لها حول العالم تعمل في 60 دولة، وتصل منتجاتها إلى كل دول العالم تقريبا، وتحقق مبيعات سنوية بمتوسط 70 مليار دولار، ويعمل لديها قرابة الـ125 ألف موظف في مختلف شركاتها العالمية. ( 4، 5، 6 )

  هيرشي .. أن تبني مدينـة كاملة للشيكـولاتة

في العام 1857 ولد ميلتون هيرشي لعائلة أميـركية مهاجرة من أصول سويسرية ألمـانية؛ استقرت في الولايات المتحدة أثنـاء موسم الهجرات الأوروبية الهائلة إلى القارة الجديدة بعد اكتشافها. فتح ميلتون عينيه في مدينة بنسلفـانيا، وأول ما وجده أسـرة تملك مزرعة متواضعـة، والكثير من المشاكل.

  لم يكمل ميلتون هيـرشي تعليمه، وتوقف عند المرحلة الرابعة من المدرسة بعد ان حقق فشلا ذريعا في الدراسة. وعندما ترك الدراسة، وقرر أن يقتحم مجال العمل والوظائف ليعيل نفسه على الأقل، بدأ رحلة عظيمة من الفشل المستمر في كل الوظائف التي شغلها تقريبا، حيث لم يمض وقتا كافيا في أي وظيفة إلا وتركها أو طُرد منها. كانت أبرز هذه الوظائف هي عمله كمحــرر لإحدى الصحف المحلية التي تصدر بالألمانية كونه يجيد الألمـانية التي ورثها من أجداده؛ لكنه طُرد منها في وقت وجيز بعد فشله الذريع في أداء مهامه ومن ثمّ قررت الصحيفة الاستغناء عن خدماته.

لم يكن أمام الفتى خيار آخر سوى البحث عن عمل آخر، فالتحق بوظيفة وضيعة كمساعد في متجر لصناعة الحلويات والمرطبات، وهي الوظيفة التي أبدى فيها تميزا كبيـرا جعلته يستمر فيها لمدة أربع سنوات تشرّب فيها صناعة الحلويات بشكل ممتاز، ثم انتقل إلى مدينة فيـلادلفيـا في العام 1876 وهو ابن 19 عاما مقـررا بحماس الشباب أن يفتتح شركته الخاصة لصنـاعة الحلوى التي تعلّمها طوال السنوات الأربع الماضية. ومع ذلك، لم يوفّق في افتتاح شركته الأولى، فقرر أن يخوض رحلة أخرى للبحث عن وظائف.

ارتحل الشاب إلى عدد من المدن ليعمل في عدد من مصانع صناعة الحلويات المحلية، متنقلا من نيوأورليانز إلى شيكـاغو ومن ثم الاستقرار في نيـويورك التي قرر أن يفتتح فيها شركته للمرة الثانية، وبالفعل حققت نجاحا مبدئيا ثم ما لبثت أن انتهت بخسارة فادحة قادته إلى إغلاق الشركة مرة أخرى؛ وذلك في مطلع الثمانينيات من القرن التاسع عشر.

  السيد ملينتون هيرشي

   في النهاية، ومع بلوغه سن الثلاثين تقريبا وتشبعه بخبرات طائلة في مجال صناعة الحلويات، قرر هيرشي أن يخوض التجربة للمرة الثالثة، حيث حصل على قرض مصرفي استطاع من خلاله تأمين إطلاق شـركته الجديدة التي سمّاها "لانكستـر كاراميل"، قام من خلالها بالتركيز على دعم الأبحاث في صناعة الحلوى التي تمكّنه من صنـاعة وصفة جديدة للسوق بدلا من بيع منتجات تقليدية، والتركيز على إطلاق منتجات الكراميل الممزوجة بالحليب، وهو ما حقق نجاحا كبيرا في السوق. هذا النجاح الذي وصل ذروته عندما قام ببيع كمية كبيـرة لأحد المستوردين الإنجليز الذي أعجب للغاية بالحلوى التي يصنعها، وقام بعقد صفقة كبيرة معه مكّنته من سداد القرض البنكي، والبدء في إطـلاق مشروعه للتوسع.

  في غضون عدة سنوات، حققت الشركة نموا مدهشا من خلال مصنعين كبيرين يشغّلان أكثر من 1300 عامل، واعتبرت الشركة من اكبر شركات صناعة الكاراميل في الولايات المتحدة. لاحقا، اهتم هيرشي اهتماما استثنائيا بالشيكولاتة، وأسس مصنعا جانبيا لها عام 1894، ثم قام لاحقا ببيع حصته في شركته بمبلغ مليون دولار وقتئذ -حوالي 30 مليون دولار حاليا-، قام على إثـرها بشراء مزرعة كبيــرة في بنسلفانيا وبناء مصنع ضخم لإنتاج وتجهيز الشيكولاتة، باسم "شركة هيـرشي للشيكولاتة"، وذلك في العام 1905. 

تحولت الشركة العمـلاقة إلى واحدة من أكبر شركات الحلويات في أميـركا على الإطلاق في تلك الفتـرة، وتضخمت أعمالها لدرجة أن تحوّلت المنطقة المحيطة بالمصنع إلى مدينة شبه متكاملة، حيث تم بناء مدارس ومساكن ومتنزهات وفندق ومستشفى وساحات رياضية للمدينة، وأطلق عليها مدينة "هيرشي" التي تعتبر حتى الآن واحدة من أهم الوجهات السياحية بالمنطقة.

   عاش ميلتون هيرشي حيـاة حافلة شهد فيها كلا من الفقر المدقع والثراء الفاحش، هذا الثراء الذي استغله في توسيع أعماله الخيرية بشكل كبير؛ خصوصا أنه حُرم من الأطفال طول حياته. اليوم، الشركة تعتبر من أضخم شركات الحلويات في العالم، يعمل بها أكثر من 14 ألف موظف بعوائد مليارية سنوية، وتوزع منتجـاتها على كافة دول العالم، فضلا عن ملكيتها لمدن ومنشآت ترفيهية عمـلاقة ومصانع ومدارس، واستحواذها على عدد كبير من الشركات العالمية. ( 7، 8 )

ربما لم يكن هنري نستله والإخوة جونسون وميلتون هيرشي يتخيّلون أثناء تأسيسهم لشـركاتهم أنها ستدوم حاملة أسماءهم لأكثر من قرن كامل، حتى وإن اختلفت إداراتها وتوسّعت منتجـاتها ربما فوق ما كان بإمكـانهم هم أنفسهم إنجازه. فإن بقاء أسمـائهم حتى الآن على رأس شركـات عمـلاقة تستحوذ على أسواق عالمية هو إشارة واضحة أن الريادي المبدع يظل اسمه برّاقا لا يغطيه التراب، ولو بعد مرور أكثر من 100 عام، حرفيا هذه المرة وليس من باب المجاز أو المبالغة!