لعل تجربة الحياة مليئة بما يكفي من كل شيء، وفي ظلها تجد الكائنات البشرية نفسها تعيش على وقع الصدمات والخيبات والهزائم، ويصير الألم والمعاناة جزء من هذا الوجود البشري المحكوم بالزوال، هناك من يتحمل هذه القساوة أكثر مما يُطيق، وبقدر ما يتحمل، يغدو أقوى مما كان عليه، وأخرى تستسلم لهذا العذاب، ولا تملك أدنى مقاومة، فلا تجد غير الانتحار سبيلا للفكاك منه، وبين هذا وذاك تنطوي حدة العذاب الذي يستشعره المرء، والحق أنه لا ينبغي أن يكون الانسان ضعيفا إلى الحد الذي يُنهي به حياته بمجرد حدث أو موقف أو معاناة تدفعه الى الانهيار، لأن هذا الأخير ليس سببا كافيا لننهي به نصيبنا من الحياة، الانهيار سبب واقعي لنتيقن مما نستطيع تحمله ومواجهته، والانهيار ليس سوى فرصة من أجل إعادة الترميم، ومواصلة البحث عن الذات وسط هذا العذاب الذي تسببه تجربة الوجود.
عندما يفشل المرء في إيجاد ذاته وسط ضجيج الواقع، فإنه يصير معرضا للإحباط، وما أسوأ الإحباط عندما لا يملك المرء عقلا صلبا يتحمل الخسارة في كل مراحلها! هناك لحظات يجد فيها الإنسان نفسه مجبرا على خوض تجربة الوجود المحفوفة بالألم، ولا يملك إلا تحمل ذلك لو أراد الاستمرار وطلب المزيد، ولعل ما يميز الكائنات البشرية هو هذه القدرة على التحمل، وفيها يتضح أن البقاء للأقوى هو أحد قوانين الطبيعة، فأن يكون المرء قويا يعني أن يكون مستعدا لممارسة وجوده بكل ما فيه من تحديات، وأن يتهيأ للخسارة باعتبارها جزء من اللعبة، وهكذا يمكن أن يتحملها إذا كان قادرا عليها، وقد يستسلم إذا كانت وتيرة الانهيار واليأس بلغت حدودها، وكل فرد يجد في ذاته بعض القدرة على ممارسة الصلابة، وما دامت الكائنات البشرية تحمل بين طياتها هذه القدرة، كان جيدا أن تتحمل كل الخيبات والآلام الذي يعرقل الوجود بين الفينة والأخرى، وما هذا التحمل إلا فرصة للنيل من الوجود.
الحياة ليست منصفة إلى درجة أن تمنحنا كل ما نشتهي، وليست جميلة لكي تزيح من طريقنا كل ما قد يعكر مزاجنا، وليست عادلة لتأخد حقنا ممن ظلمنا، وليست رحيمة لكي تأخذ ضعفنا بعين الاعتبار، هي أمور تندرج ضمن قوانين الحياة، وبالتالي لا ينبغي أن نتذمر من حصول هذه الأمور، أو أن نغضب إذا كان حظنا سيئا حتى لو صار الألم من نصيبنا، المعاناة لصيقة بالبشر، ولعلها تجعل وجودهم ذات معنى لو نظرنا إليها من الزاوية التي سيختبر فيها البشر قدرتهم وقوتهم، ولا يكون لهذا المعنى أي معنى إلا عندما يملك المرء القدرة على مواجهة الألم والتغلب عليه، وحتى عندما لا يقدر على التغلب عليه، كان جميلا أن يتحمله المرء، وأن لا يذوب فيه حتى ينهزم، لينهزم في معركته مع الحياة التي لا ترحم.
عندما يكون المرء صامدا في وجه الحياة، فإنه سيعيشها على النحو الذي يناسبه وبالطريقة التي يشتهي، فالصمود يعني تحمل الألم رغم قساوته، فأن تصمد في قمة يأسك، وأن تتحمل رغم ما فيك من انهيار، فذلك يدل على أنك أقوى مما تظن، أنت أقوى من أن تُميتك الحياة قهرا رغم ضعفك، ورغم قلة حيلتك، لأنك عرفت أن الصمود هو المفتاح أمام ما تختبرنا به الحياة من انتهاكات، والصمود هو الطريق الذي يقوي ذلك الجزء الضعيف منك، وهو الذي يهيّئك للقادم من الضربات، وهو الذي يؤجل موعدك مع الانهيار، وبقدر ما يتأجل الانهيار يكتسب المرء قوة مضاعفة ترمم جانبه الضعيف، وتسعفه بما يكفي من القدرة على تحمل المزيد.
واقعيا، الحياة مليئة بالخيبات، واليأس يسيطر على هذا الوجود، ويبدو أنه ليس هناك ما يبشر بالعكس، وبين طيات هذا الحزن الكبير يجد البشر أنفسهم مرغمين على الانصياع لما يفرضه الوجود، ولا يملكون إلا ما يخبئونه من إرادة في السير نحو الأمام، بدل الوقوف والتذمر الذي لن يغنيهم في شيء، الإرادة هي التي تتولد عندما نجد أنفسنا منهكين ونقترب من رفع الراية البيضاء، والشعور الذي ينتصب فينا مقاوما كل ما نعيشه من ضعف هو هذه الإرادة في المضي قدما وتجاوز ما نحن بصدده، وبواسطة تلك الإرادة يمكن أن نستهلك الحزن واليأس، والإرادة القوية هي التي تؤجل موعدنا مع الخسران أو تزيحه عن طريقنا، والإرادة القوية هي التي تقوينا عندما ننهار، وتسعفنا بما يكفي لنسترجع قوتنا وقوانا حتى نخرج من مأزق الورطة التي لم نجد إلى الخروج منها غير هذه الإرادة، وهذه الأخيرة هي التي تؤكد لنا مدى رغبتنا في الحياة في اللحظة التي لا ترغب فينا الحياة.
لعل الواقع أسوأ من أن نتصوره جميلا، وأعقد من أن لا نبالي به، رغم أنه لا يستحق إلا أن نتجاهله، ذلك أنه يفرض علينا ظروفه، ويجعلنا منغمسين في هذه الظروف بكل رفض، فهو يدفعنا لكل ما يثير ضعفنا، وقد تتلاشى قوانا في خضم هذا الواقع، ورغم كل ما في هذه المواجهة من صراع من أجل البقاء، واحتمالية الهزيمة مع احتمالية الانتصار، إلا أن هذا الواقع يفرض أن نتعامل معه بكل ما ملكنا من قوة وصلابة، وأن لا ندعه ينال منا بتلك السهولة التي يمكن أن تُعجِّل بحتفنا، وهكذا يمكن فقط أن يساير المرء ما تعج به الحياة من خيبات. والتجربة التي يختبرها المرء بين أحضان الحياة لا تقبل الضعف، بقدر ما يجب أن يغلب عليها طابع القوة، هذه الأخيرة قد تكون كفيلة بمواجهة الخيبات، لأنها تختزل ما يكفي من التحمل والصلابة في أشد لحظاتنا انكسارا.