شر البلية ما يضحك، هكذا أحببت أن أصف العملية التعليمية في مؤسساتنا التربوية. يمكنني أن أبدأ بالتكلم عن أساليب ونظريات التربية والإسهاب بها، كوني متخصص في هذا الحقل الثمين. لكني آثرت أن أطرح بين أيديكم الجانب الذي يتجاهله المنظرون والمتشدقون في التربية، ألا وهو الجانب العملي. وهو الجانب الذي يقترب من المثل القائل: (المي بتكذب الغطاس)، أو (غداً يذوب الثلج ويبان المرج).
الجانب العملي هو الجانب الذي يجب أن نبدأ منه، بجمع ملاحظاتنا وإنشاء دراساتنا، لتقارب الواقع، وتكون إنعكاساً له، فالنظرية والتطبيق، يجب أن يكونان منسجمان، وإلا فإن النظرية أو الفرضية لا قيمة لها في الحقيقة العملية. ما أسهل الكلام إذا لم يلحقه فعل! قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ" (3) سورة الصف. الذين قاموا بوضع النظريات، وضعوها ضمن شروط معينة في بيئة محددة. ومن يريد أن يأخذ بها، يجب أن يأخذ بعين الإعتبار البيئة التي قامت عليها هذه النظرية أو تلك الفرضية.
نحن نأخذ ما توصل به العالم من نظريات ونجعلها عندنا مسلمات لا يمكن تفنيدها بسبب جهلنا بكيفية قيامها وعلى أي أُسسٍ وضعت. نظامنا التعليمي يعاني من فجوات كبيرة بين المدارس والجامعات من جهة وبين الدراسات العليا من جهة أخرى. الدراسات التي تعد من أجل الحصول على درجة علمية ما أو من أجل درجة ترفيعية يجب أن تكون هدفها الأول والأخير تحسين العملية التعليمية وليس بغرض أن تكدس في ملفات ودوريات لتتراكم عليها الغبار بلا فائدة تذكر.
كم دراسة تعاد وتصاغ مرة أخرى ليس لهدف سوى أن يتفاخر صاحبها بعدد الدراسات التي قام بها. هل يكون إعمار الجانب النظري على حساب هدم وتجاهل الجانب العملي؟! كم نحتاج إلى المعلم الباحث الذي يضع يده على الجرح ويسعى جاهداً إلى أن يلتئم. المعلم هو الميدان وهو مصدر ثقتنا وحجر الأساس الذي لا تبني مؤسسة تعليمية إلا به. المعلم هو من تفاخر به المتنبي عندما قال: "قم للمعلم وبه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا".
نحتاج أن تنبع الدراسات العلمية بشراكة عملية مع المقيمين في ميدان التعليم والتعلم كالمعلمين والمشرفين والإدارببن الأكاديميين والمرشدين. العملية التعليمية اليوم تعاني من مشاكل كبيرة تتمحور حول المستجدات التي تقف في وجهها، بين الطالب من جهه، والمدرسة من جهة أخرى. فهل يجب علينا أن نُعِدَ أبنائنا لعالم جديد مختلف تماماً عن عالمنا؟! هناك الكثير من التحديات التي تواجه التربية بدءً من البيت والمدرسة وحتى الجامعات.
النظرة الإيجابية للتعليم هي أشبه بمن يضع يده في النار ويدَّعي أنها ثلج. أتكلم عن التعليم في عصر التكنولوجيا! أبناؤنا هم مسؤوليتنا وما يواجهونه من تحديات يحتاج منا أن نواجهه بكل جدية وحزم. كل شيء مستهدف؛ الثقافة، القيم، الدين، اللغة، المبادىء، الجوانب النفسية والإجتماعية، والكثير الكثير. أي تنازل نقدمه باسم تطبيق النظريات التربوية والنفسية هو على حساب قيمنا. أصبحت القيم تباع باسم التربية من أجل ملئ الجيوب بالأموال واستقطاب الزبائن الذين كنا نسميهم (تلاميذ)، هذا هو عالم الاقتصاد والأعمال بين قوسين (بزنيس القيم). للعملية التعليمية أعمدة تسندها ومن هذه الأعمدة "المعلم"، إمتهان المعلم وتحميله فوق طاقته أو تجاهله باتخاذ الكثير من القرارات التي يجب أن يكون جزء منها يؤدي إلى مشاكل تؤثر بشكل واضح على النتائج لتصبح غير متوقعة.
المؤسسات التربوية اليوم تصب إهتمامها على ترفيه الطالب وإرضاء أولياء أمور الطلبة من خلال توفير الخدمات والأدوات المناسبة لضمان بقاء عقودهم. كل هذا بغض النظر عن توفير مناخ تربوي يتحلى بالجودة العالية من خلال ترابط وتجانس مكونات العملية التعليمية. البعض يظن أننا نحتاج إلى سنوات ضوئية حتى يصل نظامنا التعليمي والتربوي إلى المستوى الذي لا نرضى أن يكون أقل من الممتاز. في الحقيقة لا نحتاج إلى وقت طويل بل نحتاج فقط إلى المخلصين لهذه المهنة المقدسة حتى نشعر بالفخر ونلمس الفرق.