18.88°القدس
18.57°رام الله
17.75°الخليل
24.32°غزة
18.88° القدس
رام الله18.57°
الخليل17.75°
غزة24.32°
الأحد 29 سبتمبر 2024
4.95جنيه إسترليني
5.22دينار أردني
0.08جنيه مصري
4.13يورو
3.7دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.95
دينار أردني5.22
جنيه مصري0.08
يورو4.13
دولار أمريكي3.7

اليسر والسعة.. من سمات الحياة الروحية في الإسلام

8
8
يوسف القرضاوي

الحياة الروحية في الإسلام ـبرغم امتدادها وشمولها واستمرارهاـ حياة سهلة ميسرة، لا تكلف الإنسان شططا، ولا ترهقه عسرا، ولا تحمله من الآصار والأغلال ما يقصم ظهره، فهو غير مكلف إلا بما في وسعه، ولا مطالب إلا بما يستطيعه ويقدر عليه دون مشقة شديدة.

ولا غرو إن وجدنا القرآن ينفي الحرج عن هذا الدين نفيا كليا، فيقول: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" (الحج:78).

ويقول في ختام آية الطهارة وشرعية التيمم: "مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِم نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلكُمْ تَشْكُرُونَ" (المائدة:6).

وفي ختام آية الصوم، وما ذكر فيها من الرخصة للمريض والمسافر من الفطر والقضاء، يقول: "يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" (البقرة:185).

ويذكر القرآن صفة النبي صلى الله عليه وسلم، عند أهل الكتاب: ".. الذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ التِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ.."(الأعراف:157)، فهذا هو عنوان رسالته عند أهل الكتاب، وهو ناطق بما تحمله من السعة والتيسير، ورفع آصار التكاليف الثقيلة التي كانت على من قبلنا، ولهذا علم الله المؤمنين أن يقولوا في دعائهم: ".. رَبنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا به" (البقرة:286). وقد ورد في الصحيحين: أن الله استجاب لهم هذا الدعاء.

ومن ثم وجدنا الحياة الروحية في الإسلام تتسع لكل مراتب الناس ودرجاتهم: الدنيا والوسطى والعليا، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم بقوله تعالى: "ثُم أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ" (فاطر:32).

فهناك من يكتفي بأداء الفرائض، وقد يقصر فيها، ويقتصر على ترك المحرمات وقد يقع فيها، وهو الظالم لنفسه.

وهناك من يلتزم بأداء الفرائض ولا يقصر فيها، ويلتزم بترك المحرمات ولا يتهاون في الوقوع في شيء منها، وهو المقتصد.

وهناك من لا يكفيه ترك المحرمات، بل يتقي الشبهات استبراء لدينه وعرضه، بل يرتقي فيدع المكروهات، ثم يرتقي فيدع ما لا بأس به حذرا بما به بأس.

وفي جانب المأمورات لا يكفيه أداء الفرائض، ولا يشبع نهمه، فهو يتقرب إلى الله بالنوافل حتى يحبه، كما جاء في الحديث القدسي: "ما تقرب إلي عبدي بأفضل مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وقدمه التي يسعى بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه".

فإذا كانت الفرائض توصل صاحبها إلى منزلة "القرب" من الله، فإن النوافل ترقى به إلى منزلة "الحب" من الله تعالى، وهي منزلة السابق بالخيرات بإذن الله.

لقد وسعت الحياة الروحية الإسلامية الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن فرائض الإسلام، فعرفه إياها: من الصلوات الخمس، والزكاة المفروضة، وصوم رمضان، وهو يسأل في كل منها: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع"، ثم قال في النهاية بكل صراحة: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق" أو "دخل الجنة إن صدق".

ووسعت ـ مع هذا الأعرابي ـ العباد الزهاد من الصحابة مثل أبي بكر وعمر وعلي وأبي ذر وأبي الدرداء، وسلمان، وعبد الله بن عمرو، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.

وتتسع الحياة الروحية في الإسلام للعصاة التائبين، ولا تغلق في وجوههم باب الرحمة، مهما تكن جرائمهم، وإسرافهم على أنفسهم، وفي هذا يقول القرآن: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رحْمَةِ الله إِن الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنهُ هُوَ الْغَفُورُ الرحِيمُ" (الزمر:53).

فانظر كيف أمر الله رسوله أن يناديهم بهذا النداء اللطيف برغم معصيتهم وإسرافهم على أنفسهم: (يا عبادي) ليشعرهم بأن صلتهم بربهم لم تنقطع وأنهم ـ برغم ما ظلموا وأسرفوا ـ عباده، الذين لا يجوز لهم أن يقنطوا من رحمته أو ييئسوا من روحه، فإنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون، ولا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون.

وقد ذكر الله قوما أشركوا وقتلوا وزنوا ثم تابوا فتاب الله عليهم: "وَالذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النفْسَ التِي حَرمَ الله إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا. إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيمًا" (الفرقان:68-70).

وقرأ الإمام الحسن البصري رضي الله عنه قوله تعالى في سورة البروج: "إِن الذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُم لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ" (البروج:10)، فقال معجباً من عظيم فضل الله تعالى وسعة عفوه ورحمته: قتلوا أولياءه، ثم لم يوئسهم من التوبة!

وفي قصة المرأة الغامدية التي اقترفت كبيرة الزنى وهي محصنة وأصرت أن تتطهر بإقامة حد الله عليها، مهما تكن شدته، قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم".