لسنا بصدد الإسهاب في عرض نمطي لعلاقة الأمن بالحرية بقدر ما لا يمكن أن نتغاضى عن الجدلية الأزلية بل والأبدية بين الأمن والحرية، إذ ينحصر التفكير البشري عادة في تقديم الحجج والبراهين الدامغة، فقط من أجل توسيع سلطته المعنوية أو حدوده الجغرافية على حساب الآخر فترى بأم عينك متضادّات عديدة في هذا المجال كالخصوصية مقابل التنصّت وحرية التعبير مقابل الكبت، حيث تميل الآراء المتعددة والمختلفة إلى اعتبار الجيوش والعساكر والأسلحة بابا من أبواب حماية المكتسبات الأساسية لنهضة الشعوب وعلى رأسها الحريّة.
ولتوضيح الأمر للعموم، يمكن القول أنّ الحرية قيمة إنسانية ذات فضاء تأويلي واسع وممتد يختلف من ثقافة إلى ثقافة مغايرة ومن ممارسة إلى أخرى ولكن ربّما تتفق جميع الأعراف على تعريفها بأنّها إمكانية الفرد دون أي جبر أو شرط أو ضغط خارجي على اتخاذ قرار أو تحديد خيار من عدة إمكانيات موجودة ومختلفة. والحرية هي التحرر من القيود التي تكبل طاقات الإنسان وإنتاجه سواء كانت قيودا مادية أو قيودا معنوية، لتشمل في جوانبها العديدة عنصر التخلص من العبودية لشخص أو جماعة أو ذات بعينها، ثم في مرحلة أخيرة التخلص من الضغوط المفروضة على شخص ما لتنفيذ غرض ما، حيث لا مجال للإجبار والفرض.
وبمعناها القانوني هي: استطاعة الأشخاص على ممارسة أنشطتهم دون إكراه، ولكن بشرط الخضوع للقوانين المنظّمة للمجتمع. وقد عرفت الحريّة العامّة الكثير من الأفكار والمذاهب المتعلّقة بها، وأهمّها، نجد المذهب الفردي، الّذي يؤكّد على الحريّة الفرديّة، ويعتبر الفرد هو غاية النّظام، وما السلطة الحاكمة إلّا وسيلة لتحقيق الأمان. كما لا يمكن بأي حال التّغاضي على أن الحرية مبدأ يهب لحياة الإنسان المعنى والقيمة المطلوبتين حيث ميّز المولى عزّ وجل الإنسان عن الملائكة والحيوانات بحرية الاختيار حيث تمكّنه من فكرة السموّ إلى مرتبة الملائكة كما تجعله أيضا ينحدر إلى رتبة دنيا يقبع فيها الحيوان.
أما الأمن هو شعور الفرد أو الجماعة بالطمأنينة، وإشاعة الثقة والمحبة بينهم، بعدم خيانة الأفراد لبعضهم البعض، والقضاء على الفساد، بإزالة كل ما يهدد استقرارهم وعيشهم، وتلبية متطلباتهم الجسدية والنفسية؛ لضمان قدرتهم على الاستمرار في الحياة بسلام وأمان. إذا السؤال الذي بتبادر إلى الذهن مباشرة هل أن الحريّة قد تهدد إشاعة الأمن في بلد أو وطن ما؟ ربّما الإجابة عن هذه الإشكاليّة لن تأخذ بعدا جديّا إلا متى استعرضنا في تحليلنا علاقة الشعوب العربية أو غيرها من الشعوب التي تقبع تحت نير الاستبداد والديكتاتوريات إلى جدلية الأمن والحرية، التي عادة ما تكون نظرتها إلى أجهزة الأمن محاطة بغلاف من الخيفة والتوجّس وذلك بسبب إفراط حكّام تلك الشعوب الجوسسة والتنصّت على المواطن إن صحّ اعتباره حقيقة مواطن تتوفّر فيه شروط المواطنة المتفق عليها، ولهذا أكثر أمثالنا الشعبيّة تصبّ في هذا المجرى مثل "الحيطان لها آذان" أو "امشي تحت الحيط" وغيرها كثير.
على عكس الدول التي تسيطر عليها الاستبداديات فإن الدّول التي تداعت نحو الديمقراطية وتمكين المواطن من قدر معتبر من الحريّة، نلاحظ أن هذا التّمكين ساهم بشكل كبير في شعور المواطن بالأمن حيث يمكنه التعبير عن رأيه دون خوف على حياته من تقييم وتقويم ما أعوجّ من آليات الحكم والتحكّم، ثم أنّ اختلاف الرأي الذي يعتبر عنوانا بارزا لممارسة الحرية لا يمكن بأي حال إلا أن يصبح شأنا إيجابيا يدفع نحو تمازج الأفكار من أجل قرار أمثل يعود بالفائدة على الجميع دون استثناء.
واعتبارا لما سبق ذكره، يمكن أن نستخلص قاعدة واضحة تتمثّل عادة في أن الأمن لا يمكن إلا أن يكون نتاج فعلي لممارسة الحرية بمعنى أنه لا أمن مستتبّ بدون ممارسة حرية حقيقية وعليه فإن بلدان شمال أوروبا أو ما يطلق عليها بدول الإسنكندناف كالنرويج وفنلندا والسويد تتصدر الترتيب العالمي في الأمن والطمأنينة رغم انها تتذيل دول العالم في العسكرة والتسليح وغيرها من أدوات الحرب.
هذه الدول حققت عنصر الحرية في مرحلة أولى لأن الإنسان الحر في إرادته يشعر بطبيعته بالأمن أكثر من الإنسان المقيّد فيها وإجابة على سؤال هل تقبل أن تتخلى عن حريّتك من أجل توفير أمنك يصبح عبثيا وغير ذي جدوى أو معنى ولا فائدة في طرحه أصلا إلا إذا كانت الغاية من طرحه الشروع في تأسيس ديكتاتورية جديدة في البلد والتمهيد لها بطرق ملتوية ومغلّفة يستغل فيها إنسانا بسيطا مغررا بإرادته ليقرّ تحت الرهبة والجزع بأن الحرية نوع من الرفاهية والتّرف لا تضاهي في ممارستها الشعور بالأمن والأمان. الحرية والأمن.. متلازمتان متوازيتان.. لا يمكن بأي حال فصلهما.. فلا أمن دون حرية.. وفي المقابل توجد حرية إلى أن يستتب الأمن.