يقولُ لصاحِبه: لا أستطيع التوقّف عن التفكير! وأرى نفسي قدْ استحلتُ إلى عقلٍ فقط! يُفكّرُ ويضعُ الأشياء في حيّزِ المنطق ووضعياته، ولا أعلمُ ما السبيل إلى نسيان كلِّ هذا! لمْ يُقابله صاحبه باستنكارٍ أو ما شابهه، وإنّما كانَ يُصغي إليه ويبني على ما يقول، ولمْ يطلبْ منه السكوتَ أيضاً، بلْ دعاه لإنهاء الكلام لعندِ آخره، كيْ تصل الصورة لعقله كاملة لا تشوبها شائبة! وبهذا سيضع التصوّر المناسب للردّ على صاحبه، ولكيْ يضعَ على الطاولة نظريّته التي لبثت سنين طوال طي الكتمان، وهذا الحديث الذي واجهه به رفيقه سيكون السبب في التنظير لما سمّاه بـ "تحصيلِ حاصلْ".
سيطرتْ الكثير من المسائل العقليّة والفكريّة على عقول كِبار الفلاسفة والمفكرين على مرِّ التاريخ والعصور، منها ما هوَ جديرٌ بالحديث عنه وتقليبه من جميع الزوايا والتصوّرات، ومنها ما هوَ عبثي! ليس في ذاته، وإنّما بالغرقِ والاستغراقِ فيه. أحدْ أهمَّ الأسئلة الفلسفيّة الكُبرى هو: لماذا كانَ الشيء؟ أو لماذا كانَ الوجود؟ وقدْ قابلَ هذا السُؤال أسئلة أخرى انبثقتْ عنه أيضاً، فقدْ قالوا: لماذا الوجود هو الحالة الطبيعيّة، ولم يكنْ العدم؟ وسأتطرّق لمسائل أخرى في ثنايا هذا المقالِ لاحقاً، ولكنْ، دعوني أبدأ بهذا السُؤالِ وأقول: وإنْ عرفنا لماذا كانَ الشيء؟ ما الذي سيتغيّر؟ أو بعبارةٍ أخرى؛ ما الإضافة التي سنجنيها بالإجابةِ على هذا السُؤال؟ وعلى جانبٍ آخر -وهوَ المهمّ- هلْ في إسلامنا سؤالٌ كهذا؟ بالطبع، لا يوجد! لأنَّ الإجابة عليه لا تعني شيئاً، فالوجود حاصل شئنا أمْ أبينا! ويكأنّنا نُتعبُ أنفسنا بتحصيلِ حاصلْ أيّها الأخوة والأخوات.
منَ المُمكن أنْ يظهرَ لنا بعض الجهابذة ليقول التالي: تبريرك لأعظمِ سُؤال هو تحصيل حاصل فقط! قمتَ بالشطب على تاريخ فلسفي كامل بإجابةٍ ضحلةٍ كهذه! وردّي سيكونُ: نعم! قمتُ بشطبِ هذا التاريخ فيما يخصُّ هذا السُؤال فقط! لأنّه فعلاً سُؤالٌ عبثيّ لا يُغني ولا يُسمنُ من جوع، وتحصيله هو حاصل لا نملكُ في تغييره شيء، ولو أنَّ هؤلاء الفلاسفة تناولوا شيئاً غيره لما رأينا معظمهم يتخبّطُ يميناً وشمالاً في طرحِ أسئلةٍ الطريقُ إلى جوابها مسدود ومُعتم، وتفوق قدرة الإنسان العقليّة أيضاً كما وصفها أبو حامد الغزّالي حُجّةُ إسلامنا وإمامنا.
الإمام والبحرُ الكبير أبو حامد الغزّالي، وقدْ كتبتُ مقالاً عن هذهِ الأُعجوبة العام المُنْصرم، وسيكون له نصيبُ الأسد في هذا المقال لتبيان وتوضيح هذا "التحصيل وهذا الحاصل" الذي أشرتُ إليه، يعرضُ أبو حامد الغزّالي في كتابه القليل "الصحائف" العميق "المعنى" تقسيماتٍ عدّة للمسائل التي تندرج تحت العقل، وتقسيماتٍ أخرى للبشر الذين يفهمون هذه المسائل، وطرحهُ هذا من أجودِ ما مرّتْ عليه عيني؛ محتوىً وإقناعاً أيضاً، يقول أبو حامد: أنَّ هنالك مسائل تتجاوز عقلنا البشريّ، وعقولنا لمْ تُخلقْ لتفهمها أساساً، ولنْ تستوعبها لأنّها خارج مجال الاستيعاب البشري، وسؤال: لماذا كانَ الشيء؟ هو أحد هذه المسائل التي لنْ نستوعبها، لذلك كانَ يدعو في كتابه للابتعاد عن هذه المسائل العصيّة على الفهم، والعبثيّة كذلك، قياساً على قُدراتنا العقليّة.
استكمالاً لما عرضهُ أبو حامد، يقول أيضاً: والبشر في الفهم ينقسمون إلى ثلاثةِ أقسام: الفئة الأولى هم العوام وأهل البله -كما نعتهم دون انتقاص- وهؤلاء يُعاملون بالوعظ والإرشاد ِفقط، وبما يُناسب فهمهم للأمور، والفئةُ الثانية: أهلُ الذكاء والفطنة، وهؤلاء يُستخدم معهم أسلوباً عقليّاً أعلى وأرقى من العوام إنْ لمْ يُخالفونا، وإنْ خالفونا كالفلاسفة الذين يدّعون أنّهم أهل البرهان والدليل، فندخل معهم بالجدلِ الحسن، واستشهدَ بالآية الكريمة: "وجادلهم بالتي هي أحسن"، والفئة الثالثة سمّاهم بأهل العلم الإلهي، وأصحاب الحضرة، وقدْ قالَ بقلّة هذه الفئة ونُدْرتِها، لذلك كانَ يُخاطبهم بالمشافهة ولمْ يَكتبْ المُصنّفات لقلّة هذه الفئة، ولعدم نشر معرفة كهذه للعوّام.
منْ أساسيات ما قالَ أيضاً: "وأُحذّرُ أهل العوام والبله من الخوض في علومِ الفلسفة والكلام، وحريٌّ بهم الخوض في المعاصي والفسق على الخوض في هذه العلوم، والتي ستفضي بهم إلى الكُفرِ لا محالة"، والناظر إلى مجتمعاتنا سيرى مدى صحّة قول هذا الإمام وسلامة قوله، ونجاعة تحذيره هذا. وبعدَ هذه المُقدمة البسيطة من أبي حامد الغزّالي، سأُكمِلُ المسائل من بعدَ السُؤال الفلسفي الأكبر، فالمسألة الثانية هي سُؤالٌ أيضاً، ولنْ أُطيل الكلام فيه، لأنَّ الردّ كانَ من رسولنا الكريم -صلّى الله عليه وسلّم- ألا وهو: من خلقَ الله؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول من خلق كذا وكذا؟ حتّى يقولَ له منْ خلقَ ربَّك؟ فإذا بلغَ ذلك فليستعذ بالله وليَنْتَهِ".
ثالثُ هذه المسائل هي: القدر، وقدْ قال رسولنا الكريم: "هكذا هلكتْ الأقوامُ من قبلكم"، عندما رأى ثلّةً من أصحابه تتناقش في مسائلِ القدر، ويقول ابن رُشد في هذا: "القدر هو من أعقدِ المسائلِ التي مرّتْ على العقلِ البشري"، والقدر في رأيي هو تحصيلُ حاصلٍ أيضاً، وإيمانٌ محض في أساسه، فأنا أفهمه هكذا وبفهمي البسيط، لذلك صنّفته هنا لأنّه كذلك، ففي حديثِ رسولِ الله: "الإيمان بالقدرِ خيره وشرّه"، فما سبقه هو إيمان، والإيمان عمليّة اعتقاد غيبيّة لا تحتاج إلى دراسة ونظر ولهذا سُمّيَ إيماناً، ولعلَّ هذه هي مُشكلتنا مع كافّة المُلحدين، الإيمان الغيبي عندنا والذي يرفضونه! فهم أصحابُ العلم والمنطق الذين يُخضعون كلَّ شيءٍ للدراسة والنظر، ويا ليتهم أفلحوا في شيء، حتّى أنَّ هذه المسائل يبتعدون عن إجابتها عادةً لفقدان الجواب، ولرفضِ الإيمان.
رابعُ هذه المسائل هي: المسيّر والمخيّر، وقدْ قالَ أبو حامد الغزّالي بكلِّ بساطة: "الإنسان مخيّر فيما يعلمْ، مسيّر فيما لا يعلمْ"، وهذا تحصيلُ حاصلٍ أيضاً، ولا داعي للخوضِ فيه والجدل، وهذا المقال هو مُحاولة لإضفاء البساطة على مسائلٍ عقّدتْ البشر على مرِّ التاريخ، وأنا هنا أُحاول فرض البساطة عليها وزرع هذه البساطة بين النّاس ونسف حاجز الرُعب لديهم، ولدى كلّ من توسوسُ له نفسه بالتفكير فيها، لأنّ ما عرضته هنا هو محضّ تجربة شخصيّة وقراءات مضنية لمْ توصلني إلى ما رجوته في البداية، ولكنّها أوصلتني لهذه البساطة والحمدُ للهِ على هذا، ولأنّها بسيطة فلنْ أُطيل، ولنْ أجادل، فهذا المقال ليسَ ردّاً على أحد، بقدرِ ما هو تبسيط لمنْ كانَ له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
فيا أخي ويا أختي، أسألُ الله لنا ولكم العافية والمعافاة الدائمة في الدينِ والدنيا والآخرة، وأسألهُ أيضاً راحة البال والإيمان والطمأنينة، فأرجوكم أنْ لا تكونوا ممن قالَ فيهم الله: "وكانَ الإنسانُ أكثرَ شيءٍ جدلا"، وتعاطوا مع ما ذُكر ومع كلِّ شيءٍ ببساطة وبالأبيضِ والأسود، ولا تجعلوا للونِ الرماديّ مكاناً في عقولكم، وعندَ التخبّط والتشوّش اذكروا قولَ الله: "ولقدْ يسّرنا القرآن للذكرِ فهل من مدّكر"، فما أعظمَ وأعمق هذا، التيسيرُ عنواناً لكلِّ شيء! ويكفينا قرآننا يا أيّها النّاس... والسلام!