إن الحضارة موضوع مثير للاهتمام، ففي عالمنا المعاصر، يتم لفظ كلمة الحضارة في سياقات لا تعد ولا تحصى، فهي تستعمل للإشارة إلى مجتمعات سابقة، مثل الحضارة الإسلامية، أو عند الحديث عن الرومان، أو بلاد ما بين النهرين وغيرها، فمنذ مئات وربما آلاف الأعوام، ظلت الشعوب تميز نفسها عن الآخرين، أي عن الهمجيين من خلال تقديم أنفسهم على أنهم متحضرين أو مهذبين، وقد تعددت المفاهيم الخاصة بكلمة " حضارة" فشملت على العديد من التعريفات، لكن، في المفهوم العام، تعتبر الحضارة بأنها ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته، سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلى تلك الثمرة مقصوداً أم غير مقصود، وسواء أكانت الثمرة مادية أم معنوية.
الحضارة من منظور إسلامي.
لو نظرنا إلى "الحضارة" اليوم، سواء الغربية أو غيرها، حيث يمكننا أن نعرفها بكل وضوح بأنها الحضارة التي تقوم على العلوم المدنية لخلق الرفاه البشري، فلا اعتبار للوحي الإلهي فيها. والقرآن الكريم جاء بكل وضوح ليؤسس "مركزية الآخرة" في مقابل "مركزية الدنيا"، فلم يأت القرآن بأولوية العمارة المادية، بل جاء بعكس ذلك تماماً، حيث جاء ليحول الدنيا من غاية إلى مجرد وسيلة. فالدنيا في التصور القرآني مجرد وسيلة خطرة يجب التعامل معها بحذر، خوفاً من أن تجرفنا عن الحياة المستقبلية اللانهائية في الدار الآخرة. فكثيراً ما يشير القرآن إلى أن كل ما على هذه البسيطة من موارد وإمكانيات ليس المراد بها رفاه الجنس الإنساني، وإنما المراد بها هو ابتلاء الناس وامتحانهم، فقد قال سبحانه وتعالى: "إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا"، كما وينبه الله سبحانه في مواضع كثيرة من الوحي على أن المنزلة والمكانة الحقيقة عند الله ليست بالمظاهر المدنية والمادية، ولا بالإمكانيات الاقتصادية، كما في قوله تعالى: "وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ".
الموقف الإسلامي إزاء الحضارة المعاصرة
سجل المؤرخون والباحثون التراكم المدني في الحضارات السابقة، كالحضارة السومرية، والمصرية، والإغريقية، والهندية، والصينية، والفارسية، وانتهاء بالحضارة الغربية الحديثة، حيث لا زالت بعض آثار تلك الحضارات وعجائبها شاخصة اليوم في المتاحف العالمية، بل إن بعض نظرياتها تدرس إلى اليوم في العلوم الحديثة، أو هي كالمسلمات التحتية لنظريات أخرى، لذلك لا تكاد تجد علماً من العلوم المعاصرة إلا ويدرس في المدخل إليه جذوره في الحضارات السابقة، ولا سيما الحضارة اليونانية لاهتمامها بالعقليات من جهة، وللانحيازيات الغربية إليها من جهة أخرى.
لكن السؤال الذي يكاد يؤرق كثير من الشباب المسلم اليوم، هو ما موقفنا نحن من الحضارة الغربية اليوم؟، في الحقيقة، الموضوع شائك وطويل، ولا يمكننا سرده في مدونة، لكن من تأمل موقف الأنبياء وكيفية تعاملهم مع المنجزات الحضارية ومخزون العلوم والفنون المدنية في عصورهم، ينكشف له منهج التعامل الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى في تعاملنا تجاه الحضارة المعاصرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم، عندما بُعث الى الناس، كان في عصره أربع إمبراطوريات اقتسمت العالم، الرومانية والفارسية والهندية والصينية، فقد كانت معاهد العلوم فيها شامخة، فضلاُ عن مخزون حضاري متراكم من الحضارة المصرية والإغريقية.
بل إن العلوم بلغت قبيل مبعثه -عليه الصلاة والسلام- مبلغاً عالياً في دقائق المعقولات، كقوانين العقل الجوهرية، ونظرية الدولة، ودقائق الهندسة، وفنون العمارة، وأصول الطب، وقياس المسافات الفلكية، واختراع البوصلة وغيرها كثير، فكل هذه العلوم وغيرها كانت معروضة زمن البعثة النبوية. فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم للناس يجب عليكم أولاً أن تقفوا موقف التلميذ أمام علوم المنطق والطب والفلك والفلسفة، ثم تدعو الناس، لا، لم يقل لهم ذلك، بل ولم يقل لهم أيضاً اعرفوا قدر أنفسكم أمام الحضارات الأخرى! ولم يقل لهم أن يشاركوا الأسرة الدولية في سعادة الجنس البشري عبر الابداع المعرفي، كلا، لم يحدث ذلك، بل أن الله سبحانه أخبر نبيه عن القيمة المنحطة في ميزان الله لكل تلك المدنيات ووصفها القرآن بالضلال بكل ما تضمنه قوتهم وعلومهم وفنونهم ومدنيتهم، فمع كل ما وجد على هذه الأرض من العلوم المدنية والفلاسفة والأدباء؛ فأنهم لا وزن لهم في ميزان الله، سواء في ذلك عربهم وعجمهم، باستثناء طائفة من الناس كانت لديها بقايا من النبوات وبعض من أثارة الوحي، فبقايا النبوات وما تضمنته من العلوم والمعارف الإلهية هي نوافذ التنوير الحقيقي في الأرض، وليس التنوير هو الإغراق الفلسفي والمدني، فقد قال الله تعالى: "الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ"، فحكم الله تعالى عليهم بأنهم في ظلمات، وأن التنوير الذي نحتاجه هو نور الوحي "وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"، وقد أشار الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في هذا السياق، حيث يقول: "وعند المسلمين من العلوم الإلهية الموروثة عن خاتم المرسلين ما ملأ العالم نوراً وهدى".
ومن طالع وتأمل موسوعة "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" للمؤرخ العراقي الشهير جواد علي، حيث أنه سيرى في الجزيرة العربية ألوان من الآداب والفنون والحكمة العقلية والفروسية بل كان فيهم حكماء تناقل الناس حكمتهم إلى يومنا هذا، كقيس بن ساعدة وأكثم بن صفي، فإن الله سبحانه وتعالى وصف الواقع العربي بالضلال المبين، وهذا الانتقاص والاستعلاء الشرعي على المنجزات الحضارية والفنية، ليس ذماً لتلك المنجزات لذاتها، وإنما لأن اصحابها لم يتزكوا بالوحي والعلوم الإلهية، فلم يصلوا الى الرقي والسمو الحقيقي وهو العبودية لله، وبقوا في حضيض المنافسة الدنيوية.
ولا نعني ها هنا هو عدم الاستفادة من المنجزات الحضارية، فالحكمة ضالة المؤمن، لكن هنالك منهج وضعه الله لنا في التعامل مع الحضارات الأخرى، وهو أن ننتفع بما لدى تلك الحضارات كما انتفع النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، ولا نقع في التعظيم والانبهار والتقليد الأعمى لكل ما يصدر عن هذه الحضارة...... وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أننا اعتمدنا على بعض المصادر، وعلى رأسها كتاب "مآلات الخطاب المدني" للكاتب الشيخ ابراهيم السكران.