لطالما كانت دراسة الآخَر والتعرف على طرائق عيشه وسلوكه وثقافته شغفًا تملَّك الكثير من الناس، حتى أصبح السفر هوايةً، يزيدها متعةً رؤيةُ أناس تدور حياتها حول الأهداف نفسها، فتعمل وتأكل وتلبس وتتزوج وتقضي أوقات فراغها، ولكنها تقوم بالأشياء الاعتيادية مألوفة الهدف بشكل مختلف تمامًا عن ما ألفه صاحب تلك الهواية من طُرُق، وحتى بلغ الأمر ببعضهم أن أصبح "رحّالة" يقضي عمره بين البلدان المختلفة يصف جغرافيتها ومناخها وتقاليد أهلها، وربما سمعنا كلنا عن ياقوت الحموي وابن بطوطة والجبرتي وناصر خسرو.
وقد تعدى الأمر كونه هواية يمارسها بعض الأفراد، ليصبح عملًا مؤسسيًا وجزءًا مهمًا من الأكاديميا المعاصرة، فلا تكاد تخلو جامعة في أي مكان في العالم من كليات العلوم الإنسانية، التي تمنح درجات علمية متخصصة في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ والجغرافيا وغيرها من تخصصات تغوص في تفاصيل حياة الشعوب عبر الزمان والمكان، بالإضافة إلى مئات وربما آلاف الدوريات العلمية المُحَكَّمَة التي تواكب أبحاثُها المنشورة أحدث ما توصلت إليه هذه العلوم، فما أن نسمع عن اكتشاف نقش قديم أو وثائق تابعة لدولة أو شعب ما حتى نرى البعثات الأكاديمية من مختلف دول العالم المتحضر تتسابق لدراستها، وتقديم التفسيرات والتأويلات الخاصة بالحياة الاجتماعية لتلك الدولة أو الشعب بمختلف مظاهرها؛ كالدين واللغة والتقاليد والفنون... الخ، والأمثلة على النقوش والوثائق كثيرة، ومنها؛ نقش النمارة ونقش نورا ووثائق جنيزة القاهرة.
وفي ظل الاضمحلال الحديث للغزو العسكري على حساب الغزو الثقافي، أصبحت دراسة الشعوب المعاصرة -والقديمة في كثير من الأحيان- غاية مهمة من غايات المستعمِر الحديث، وفي تاريخنا القريب مثال مهم للغاية، وهو المستشرقين، الذين جاءوا من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، ولاحقًا الولايات المتحدة، وغيرها من الدول، لدراسة الشرق عمومًا، ومنه المنطقة العربية والإسلامية، فدرسوا القرآن والحديث والشعر بمختلف فتراته واللغات واللهجات والتاريخ والجغرافيا والعمارة والفرق والطوائف والثقافة والعادات وغيرها من التفاصيل الاجتماعية، وألفوا العديد من الكتب التي شوهت هذا الإرث، وحاولت النيل من الرموز المتمثلة بأفراد أو سلالات أو كتب أو غيرها، ومن الأمثلة على ذلك كتاب "تاريخ القرآن" لثيودور نولدكه، وكتاب "أصول الشعر العربي" لديفيد صمويل مرجليوث، والإشارة واجبة أن بعض المستشرقين كانوا منصفين، وأفادوا الأكاديميا العربية كثيرًا، وأسسوا للعديد من العلوم العربية اللاحقة، ولولا جهود بعض المستشرقين لضاع الكثير من التراث العربي والإسلامي، فقد حققوا العديد من أمهات الكتب العربية، مثل "لامية العجم" للطغرائي، والذي حققه إدوارد بوكوك، وكتاب "الخطط" للمقريزي،
والذي حققه الفرنسي كازانوفا، كما ترجموا العديد من الكتب أيضًا، مثل "صحيح البخاري" و"التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير" للنووي والذين ترجمهما وليم مارسيه، وقاموا أيضًا بجمع الكثير من دواوين الشعراء الجاهليين والأمويين والعباسيين وشعراء صدر الإسلام.
وفي زمان المستشرقين كانت دراسة المجتمعات شاقة، وغالبًا ما تتطلب السفر والإقامة في تلك المجتمعات لعقود من الزمان، فكانت مهمة المستشرق تكلفه نصف عمره أو أكثر، وما زالت دراسة المجتمعات هدفًا للكثير من الدول والمنظمات، ولكنها الآن باتت أسهل من ذي قبل، وهذا بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، والتي لا يتطلب العيش فيها ذلكَ المجهود السابق في السفر والإقامة، فقد قدمت مادة ثرية عن المجتمعات بدون داعٍ للحل أو الارتحال، فما أن يفتح الدارس موقعًا مثل "الفيسبوك" بضغطة على مفاتيح حاسوبه حتى يرى أمامه مجتمعًا كاملًا مفتوحًا تظهر طبيعة علاقات أفراده بمنشوراتهم وتعليقاتهم وصورهم.
إن مجتمع الفيسبوك مرآة للمجتمع الحقيقي، والعلاقات داخل هذا الفضاء الالكتروني تحكمها نفس المفاهيم التي تحكم المجتمع الواقعي، لذلك فالفيسبوك -وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي- ما هو إلا صورة مصغرة من المجتمعات المعاصرة؛ صورة سهلة الوصول والدراسة، لذلك على مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي أن يعلموا أن خطر هذه الأدوات الجديدة يتعدى فكرة الخصوصية أو الخلافات المحلية، ويصل إلى سياسات دول لم تعد تبذل جهدًا ومالًا لتعيش بيننا وتعلم الطبيعة المعاصرة لمجتمعاتنا وهوياتنا وثقافتنا.