أنا أمازيغي بالصدفة، كان بالإمكان أن أولد في الجزيرة العربية لأكون عربيا، لكن الحياة منحتني هذه الهوية، والتي ترسخت في أعماقي حتى صرت قبل الآن متعصبا لها، لكن، لما أدركت أن هذا التعصب لا يليق بالهوية، قررت عن وعي محاكمة انتماءاتي التي تعرقل انفتاحي على الإنسانية جمعاء، في سبيل البحث عما يمكن أن يغنيني عن هذه الانتماء الذي وجدت نفسي فيه، والبحث عن الانتماء الذي يتسع للجميع، والذي لا ينحصر على مجتمع معين، ذلك أننا في النهاية إنسان، وكل تلك الانتماءات التي تفرقنا يجب تذويبها عندما نتحدث عما هو مشترك بيننا جميعا.
لطالما كانت تلك الانتماءات هي السبب في النزاعات التي يشهدها العالم، نعم، هي السبب لأنها تجعلنا لا نرى الأمور من الزاوية التي يمكن أن تكون صحيحة، فنحن نعتقد أننا على صواب دوما رغم أننا مخطئون، فلا يُعقَل أن نُكذّب انتماءاتنا كيفما كانت، ولا يُعقل أن نرى الآخر المختلف صائبا، ما دام إيماننا بانتماءاتنا يتجاوز إيماننا بالمشترك بيننا، والفرق واضح بين أن لا يكون لانفتاحك حدود، وبين أن تجد نفسك محصورا داخل نطاق لا يتعدى زاوية صغيرة من المجموع العام. أنا أمازيغي من شمال إفريقيا، ولا أنتمي إلا إلى هذا النطاق، لكن عندما يكون هناك ما هو مشترك بين الجميع، ما يجمع البشرية جمعاء، فإنني أقبله بدون تردد، وأسعى جاهدا إليه.
أن تكون أمازيغيا أو عربيا أو فرنسيا، فذلك ليس له أي معنى عندما ننتمي إلى ما تشترك فيه البشرية جمعاء، وعندما ننظر إلى الأمور من زاوية كونية مشتركة، عندما ننطلق مما يمكن أن تجتمع حوله البشرية بتعدد إيديولوجياتها، فنحن لم نختر من نكونه لندافع عنه بكل هذه العصبية، لقد دفعتنا الصدفة إلى ما وجدنا عليه آباءنا، فكان طبيعيا قبل انفتاح وعينا، أن نعتقد أننا نملك الصواب، والباقي مخطئون، ونبرر أخطاءنا رغم تفاهتها، ونقوي صوابنا رغم نسبيته، لكن الحق أنه لا ينبغي أن نأخذ الأمور بكل هذه القوة، نعم، هي أمور أقوى من أن تسمح فيها بسهولة، أو تتنازل عنها بكل ما ملكت من انفتاح، لكن من الحكمة أن تفعل ذلك عندما تجد أن ما تدافع عنه يغطي عنك زاوية الرؤية، ويحد من نظرتك كثيرا، حتى تغير لون الحقيقة في عينيك، من الحكمة أن تعيد النظر في كل ما تجد نفسك ضمن نطاقه، علك تدرك بوعي أن هذا النطاق أقصر من أن تجعله يتحمل أكبر مما يحتمل، وتترك الأمور الكبرى والمشتركة بعيدة عن متناولك، هذا لأنك فقدت حاسة الانتماء إلى الكون.
يبدو واقعيا أن تجد بعض المجتمعات تمارسا تعصبا زائدا عن حده في الدفاع عن هويتها، وقد تملك من الأسباب ما يكفي لتكون كذلك، فقد يكون هذا التعصب مجرد ردة فعل عن إقصاء وتهميش تعرضت له لأسباب ما، ويتولد عن ذلك دفاعا أقوى مما يُتصور، كلنا ندافع عن هوياتنا عندما يريد الآخر طمسها، ونبدي اندفاعا حيال ذلك، ولهذا كان واقعيا أن نجد العديد من المجتمعات مستعدون للموت من أجل انتماءاتهم عرقية كانت أو دينية أو لغوية، من أجل مواجهة الغريب الذي يرفضهم أو يحاول تذويبهم أو يقلل من شأنهم، من الطبيعي أن تكون ردة فعلهم أقوى مما يتوقع الغريب، لكن لن يجدي هذا الدفاع نفعا لو كانت هناك طرق ملائمة لإبراز ردة الفعل هذه، لو كان هناك عقلانية في تدبير الدفاع، ومواجهته بما يمكن أن يجعل الغريب صديقا، وأن يدفعه ذلك إلى تغيير موقفه، وبما يمكن أن يجعل الغريب يتسم بالانفتاح وتقبل الاختلاف، وأن يتم فرض التقدير بالتي هي أحسن.
أن تكون ما شئت وسط عالم مليء بالانتماءات، فذلك ليس له أي معنى عندما تكون ما يمكن أن يشترك فيه هذا العالم، فبقدر ما تتعالى على انتماءاتك التي تختلف درجة اندماجك فيها، بقدر ما ترتفع إلى المشترك، ترتفع لتصير إنسانا بمفهومه الكوني، الإنسان الذي يحترم الإنسان، والذي يجعل من التقدير وسيلته في التعامل مع أي إنسان آخر، والفرق واضح بين أن تنتمي لجزء صغير، وأن تنتمي إلى المجموع العام، ولا تصير إنسانا كونيا إلا عندما تتعالى عن الانتماءات الصغيرة وتتقبل الاختلافات المتنوعة، الإنسان الذي ينظر إلى أن الإنسانية هي التي يجب أن تكون منطلقا وغاية، وأنه ليس هناك ما يستحق أن نؤمن به غير ما يجمعنا جميعا وهو الكون، أما ذلك الجزء الصغير الذي حددك بدون وعي منك، وجعلتك الصدفة تعتبره حقيقتك، لا ينبغي أن تضعه مكان المشترك الكوني، فقد كان بالإمكان أن تجد نفسك في حقيقة أنت تمقتها بهذا الجزء الذي لم تقرر أن تنتمي إليه.
وُجدنا في عالم مليء بالإيديولوجيات، وبالأعراق، وبالمذاهب، وانتماءات لا حصر لها، وُجدنا مرغمين على الانتماء إلى شيء ما، ولم نملك حرية اختيار ذلك الشيء، كل ما في الأمر أننا نصير مغرمين بذلك الشيء، حتى تضيق علينا زاوية الرؤية، فلا نرى إلا من خلال ما تشكلنا فيه، وهكذا تفرقنا هذه الإيديولوجيات، ليصير المرء منغلقا وسط انتماء لم يكن ليختاره لو منحت له حرية الاختيار، هذه الأمور لا تستحق أن نعطيها أكثر مما هي عليه، ولا تستحق كل ما نبذله حيالها، لا لشيء إلا لأننا وجدنا أنفسنا عليها، لم يكن من الحكمة أن ننغمس بكل قوة في انتماءاتنا، في مقابل الابتعاد عما هو مشترك بيننا، في مقابل أن نجعل من الإنسان منطلقا لإيماننا.
ليس يسيرا أن يحمل المرء من صفات الإنسان ما يجعله كذلك، فأن تكون إنسانا على مستوى السلوك أصعب من أن تعتقد أنك كذلك، فأن تمارس إنسانيتك كما ينبغي، فالأمر يتطلب أن تُضحي بكل ما يمكن ما يدفعك للانغلاق على الذات، ولعل ما يجعل هذا الأمر أكثر تعقيدا هو أن تولد وسط مجتمع لا يعرف معنى الإنسان، ولا يرى في الإنسان هدفا يستحق البناء، حيث ليس هذا الإنسان سوى وسيلة لتحقيق أهداف أخرى، فكان طبيعيا أن نلاحظ غياب هذا الذي يسمى إنسانا، ويؤسفني أن أعترف بأنني أعيش في وطن لا يوجد فيه إنسان مهيأ للانفتاح على العالم، ولا يشعر فيه المرء بأنه كذلك، فالأفراد في مجتمعي يتحددون من خلال ما ينتمون إليه، وفي الغالب تتم محاسبتك انطلاقا من انتماءاتك، إذ لا تزال الاختلافات العرقية والدينية تسم المجتمع المغربي، حيث يصفون الأفراد انطلاقا من المناطق التي جاؤوا منها، أو من خلال اللغة واللون والجنس، والدين يأخذ نصيبه من هذا الانتماء رغم أنه يتجاوز حدود الوطن، لكن من الناذر جدا أن تجد من يتحدث عما يلغي كل هذه الاختلافات، ليضعنا أمام الإنسان بمفهومه الكوني.
أن تتنازل عن هوياتك المتناثرة في أحضانك، تلك التي تعتقد أنها أنت وأنك هي، أن تتنازل عما بات منغمسا في أعماقك إلى درجة أقوى مما تتصور، أن تتنازل عما صرت تؤمن أنك تنتمي إليه، فذلك أمر في غاية الصعوبة، لكن بوجود هوية يمكن أن تجمع شمل الجميع وأن تسع لكل الاختلافات، وأن تنفتح على كل الحدود، فهذه الهوية تستحق أن نتنازل من أجلها، لأنها تذيب اختلافاتنا، وتجمعنا حول مشترك يشملنا جميعا، هذه هي هوية الإنسان، الهوية التي ينبغي أن نضعها فوق كل الهوّيات، وأن نسعى إليها رغم ما يتطلبه الأمر من تنازل، أن نحاول أن نجعل هذه الهوية تعلو علينا جميعا، وأن نتسلق نحوها على حساب تلك الاختلافات التي طالما تفرقنا وتدفعنا لأن نرفض الايمان ببعضنا البعض بصفتنا الإنسانية المخبأة في أعماقنا، هذه الصفة سنستحقها عندما تصير الإنسانية هي هويتنا.