كم تمنينا لو عاد بعضهم غرباء بالنسبة لنا.. أصدقاء وأحبة ممن خذلونا، منحناهم جُلَّ وقتنا وأثمنَه... لم نتأخر عنهم يوماً، وجدونا كلما احتاجونا، فتحنا قلوبنا وأذرعنا لمواساتهم في حين كنا أحوج ما نكون للمواساة، ولكن ماذا عنهم؟ !من قدَّمنا لهم قلوبنا خالصةً عربون حب، وتوَّجناهم على عروشها
من أسكناهم أحداق عيونِنا، من زرعناهُم في فؤادنا كشجرةٍ دائمةِ الخضرة، من تخلّلوا تفاصيل يومنا
ثم بلحظةٍ تأخذهم الحياةُ منا بل يبتعدون بعد أن يأخذوا كلَّ ما فينا.
فنكتشف أنَّنا كنا محطةً مؤقتةً لا أكثر، أو جسراً يعبرون من خلاله على رُفاتنا. نكتشفُ أننا كنا على هامش أولوياتهم مع أننا كنا نعذر دائماً تقصيرهم ونستخرج لهم المبررات حتّى من جوفِ الكذب. أدركتُ أنَّ أصدقاءنا هم من يقتلوننا أكثر من أعدائِنا، وأنَّ أسلحتَهم أكثر بطشاً ودماراً. ولَكم هو قاتلٌ شعورُ الخذلان والنكران!
نحن أصحابُ القلوبِ الصافيةِ الوفيَّة المرهفة الأكثر عذاباً؛ لأننا نعطي من نحبهم بلا حدود، ولأنَّنا نُؤثرُ غيرنا في الإحساسِ والاهتمام على أنفسِنا. نخافُ دائماً على مشاعرِ غيرنا بقدرِ ما خُدشت وجُرحت مشاعرنا، نهتمُّ بغيرنا بقدر ما نحتاجُ للاهتمام وأكثر، نحن من نعطي ما فقدناه من كلِّ جميل، إننا من يسمع مشاكلَ غيره بكل رحابةِ صدرٍ ويساعد في حلِّها بقدر ما يستطيع، وبقدر ما يعاني. إن أحببنا لا نخون، وإن صادقنا لا نتخلّى، وإن وعدنا بكلامنا وفينا. وإن فارَقنا نَصون.
فهل يعلم من يخذلوننا بما يتركونه في قلوبنا! هل يرون آثار ندوبهم علينا! هل يعلمون أننا في كل خيبة أمل منهم ندخل نوبةً من اللّاثقة وفرط الحذر من كلِّ البشر! فنحنُ أُناسٌ يحظى كل من يدخلُ قلوبَنا بامتيازاتٍ كثيرة، فهو غير قابلٍ للنسيان أو الخذلان من ناحيتنا، لا يبعدنا عنه زمانٌ أو مكان، إن اختلفنا معه ما كرهناه ولا آذيناه. ربما لأننا أفرادُ الفئةِ الحسّاسة التي تتعلَّقُ حتى بالأماكن، وتقدِّسُ الذكريات، وتقف مطوَّلاً على أطلالها.
فهل نحن نبالغ في إحساسنا وتأثرنا في المواقف أم أنَّ العلاقاتِ أصبحت تقوم على المصالح فقط وتفتقر إلى أدنى الإحساس! هل كان خطأهم أم كان خطأنا أننا أخطأنا في اختيارهم في الأساس! لا أحد منا لم يمر في حياته أشخاصٌ ظنَّهم أصدقاؤه وأقربُ الناسِ إليه، ثمَّ تبيَّن أنَّه كان مخطئاً، فهل من المعقول أنَّ من كان يفتقدكَ إن غبت عنه ساعة أو أقل؛ لأنه كان بحاجتك، أو يمرُّ في أزمةٍ أن لا يجد لك وقتاً ليرسلَ لك كلمةً يسأل عن حالك أو حتى صورةً أو عبارةً منسوخةً أو معادٌ إرسالها مرةً في الأسبوع أو الاثنين في ظل كلِّ وسائل التواصل المتاحة؛ بحجةِ انشغاله، وقلة وقته! ونحن كنا نضعه على رأس اهتماماتنا رغم كل انشغالاتنا وهمومنا.
كونوا على يقينٍ أنَّ الاهتمام يحتاجُ إلى ترجمةٍ بالأفعال، وأنَّ الروابطَ القوية لا يضعفها أيُّ انشغال، وأنَّ الكلَّ يتذكركَ حسب أهميتكَ لديه. لا تصدقوا كذبةَ قلة اهتمامهم بسبب ضيق الوقت والأشغال فمن يحبكم هو من يجد لكم وقتاً وسط يومه الممتلئ وليس من يملأ بكم فراغ وقته الضائع. فحاولوا أن تكونوا منصفين بحقِّ أنفسكم، ولا تبنوا جسورَ الودِّ بينكم وبين من يقطعونها لأتفه ظرف، واستغلّوا مساحاتِ قلوبِكُم في بذرِ علاقاتٍ تثمرُ تقديراً وعرفاناً وديمومة، وانتقوا ساكنيها بعنايةٍ بالغة، فهي ليست للإيجار يسكنونها حين لا يجدون غيرها، ثمَّ يهجرونها متى أرادوا، ثم يعودون كأنَّهم لم يفارقوها!
فإن كانت البيوت تَبلى بالهجر ويسكنها الغبار والأصوات الموحشة فكيف لا يخفتُ صدى إحساسِ القلب بعد الهجرِ، ويسكنه غبارُ الشعور! بعضُ البشر والأصدقاءِ في العمر لا يتكررون إلا مرة، فإن كنتم محظوظون بهم حافظوا عليهم، وقدِّروهم حتى لا تغيب شمسهم عن أرواحكم أبداً. ومن هنا أقدِّمُ برقيَّة شكرٍ مغلَّفة بورودِ التقدير والوفاء لأصحاب الوجه الواحد والموقف الواحد وسط المتلوِّنين.. لمن يُقدِّرونَ الصداقةَ والعلاقاتِ النقيّة... لمن يصونون الودَّ ولا يجحدون.. فشكراً للصّادقين النّادرين، لمن لا يعبثون بالقلوب والأحاسيس. لمن يتنَّفسون الإخلاصَ ويتَّخذونهُ أبجديَّةً لعلاقاتهم.