في 27 يوليو 2007 تلقى مسعفون بريطانيون في مستشفى بلندن بلاغا عن سقوط رجل من شرفته في الطابق الخامس لمبنى البناية رقم 24 بشارع كارلتون هاوس تيرس، وصل المسعفون ليجدوا الرجل يلفظ أنفاسه، إنه الملاك الحارس أو أعظم جاسوس في القرن العشرين، الجاسوس الخارق، الدكتور أشرف مروان، السكرتير الشخصي للرئيس أنور السادات، رجل تواترت بشأنه الروايات، دولة تنصبه بطلا قوميا لأنه أنقدها ودولة معادية تلقبه بطلا قوميا لأنه أنقد جزءا ضائعا منها، حيرة مربكة تصيب كل من يقرأ سيرة الرجل المتناثرة في الكتب والمقالات والمدكرات والتحليلات، لينتج من أجله وثائقي درامي يحكي مسيرة الجاسوس الخالدة لخدمة إسرائيل.
التعود على إطلاق الأحكام المسبقة لأي عقل مهما بلغ مستوى صاحبه مضر بالحوار والمناقشة واستعمال المنطق والدليل، ففي قراءة عديد المقالات التي اهتمت بالموضوع نجد الحكم المسبق جاهزا، حول الرجل الدي لا ولن يجزم أحد برأي قاطع فيه إلا التاريخ وحده، والآن بعد صدور وثائقي أعد في 2019 من إنتاج نيتفليكس عن المؤرخ الذي اكتشف وكشف أشرف مروان وتسبب في موته.
الدكتور آهارون بيرغمان، الرجل الدي ركز عليه الوثائقي بالتساوي مع أشرف مروان، قال بصريح العبارة أنه في وقت كشفه لمروان كان لا يهتم إلا للسبق الصحفي، مأخوذا بعظم السبق والشهرة التي ستطرق الباب، إعلاميا وأكاديميا وماليا، من مجرد ضربة حظ من مدير المخابرات العسكرية في حرب 1973 الجنرال إيلي زعيرا، الدي أسر له بأن الإسرائيليين ضللوا من أحد أكثر الجواسيس موثوقية عندهم مما ترتب عليه خسارتهم للحرب، ترجاه المؤرخ لقول اسم الجاسوس لكن الجنرال المسن أصر على الرفض، وبعد مدة أصدر زعيرا مذكراته التي ذكر في فصل كامل خصصه للجاسوس أن العميل كان حاضرا في اجتماع ثنائي بين السادات والملك فيصل في الرياض، هنا بحث آهارون بيرغمان في مصدر آخر عن الاجتماع، فوجد اسم د.أشرف مروان في كتاب روبنسون في الصفحة 136.
هنا أصبح للقصة وجه ومعالم، وأصبح الرجل يطارد الحلم، ومن أجل أن يتأكد من ذلك أصدر كتابا بعنوان تاريخ إسرائيل كان الغرض منه إخراج مروان من عزلته الاستخباراتية، فمروان كان يدير شركاته وأعماله في لندن مبتعدا عن العالم السري الدي دخله وحفر فيه اسمه بصمت، لكن الصمت الأبدي كان ينتظره بعد مكالمته لآهارون بيرغمان، من أجل مقابلته والحديث عن ذكره في كتابه باسم الصهر، وتفطن مروان لحيلته من أجل إخراجه عن صمته، لأن كلمة الصهر لفقها الكاتب من أجل استفزاز مروان، سأله بيرغمان لماذا قلت لهم بأن موعد الهجوم في وقت الغروب وأنتم هاجمتم على الساعة 14 بعد الظهر، ليبتسم مروان قائلا: وما قيمة سويعات بيننا، هنا تأكد بيرغمان من قول مدير الاستخبارات العسكرية إيلي زعيرا بأن مروان ضللهم.
يروي الجانبان المصري والإسرائيلي الواقعة المؤكدة من وجهة نظره هو ليزيد الأمر تعقيدا في غياب دليل قاطع من الجانبين، فالمصريون يقولون بأنه كان مكلفا من السادات بتضليلهم والدليل هو تكريمه بعد الحرب من قبل السادات وبعد موته من قبل حسني مبارك، وقبل ذلك الطريقة الغريبة التي طلب بها الدكتور مروان السفارة الاسرائيلية في لندن عارضا خدماته وملفا كاملا من المحاضر بين المسؤولين السوفيات والمصريين على أعلى المستويات في موسكو، حينها لم يسع مدير محطات الموساد في أوروبا إلا أن يذهب لمقابلته.
هنا يمكن القول أن المخابرات المصرية كانت على علم بمروره في لندن وأعطي الضوء الأخضر لمروان الدي كان يأتي للقاءات مع ضباط الموساد في سيارة السفارة المصرية، إذ لو لم يكن مكلفا بذلك لاحتاط أكثر في مقابلاته تلك، واستمر تدفق المعلومات القيمة على الموساد الدي لم يصدق ما يرى ويسمع، المعلومات من أعلى مستوى في الدولة المصرية، وإلى غاية اليوم يذكر مروان من جانب ممن عملوا معه من رؤساء الموساد بصفة أعظم جاسوس حظيت به إسرائيل، وقد بلغ الأمر تسيفي زامير رئيس الموساد أيام حرب الغفران ليصفه بأعز الأصدقاء وأنه لو استطاع لزار قبره في القاهرة ليضع عليه الورود، ويصفه شبتاي شافيت بأنه أعظم مصدر للمعلومات السرية في تاريخ إسرائيل على الإطلاق، وأمام هذا المديح المقصود به الدم والانتقاص من شرف المسؤولين العرب والتفوق الاسرائيلي الذي دوما ما يروج له، يطبق الصمت على الجانب الآخر، فالمصريون لم يرد منهم دليل رسمي على براءة الرجل، إلا تعليق من حسني مبارك الذي فند بشكل قاطع أن يكون مروان جاسوسا لأحد، لكن حرب التصريحات هذه لا تزال غير كافية من أجل التكريم التاريخي الذي يجب أن يحظى به أشرف مروان، خاصة وأن قصته خرجت للعلن وأصبحت مرتعا لكل التأويلات والكتابات المفتقرة للدليل المنطقي حول عمالته أو خيانته.
يبرر الإسرائيليون خيانة مروان لبلده بسبب رغبته في الانتقام من جمال عبد الناصر الذي تجاهله لسنوات ولم يوله أي منصب ذي أهمية، وهنا يمكن الرد بأن بدأ اتصاله معهم كان في زمن السادات، الذي قدم له مروان أرشيف الرئاسة مع ملفات ثقيلة عن دائرة عبد الناصر الذين كانوا يحاصرون السادات فكان لتلك الملفات دور حاسم في قضاء السادات عليهم في ما عرف بقضية مراكز القوى، ويدللون أيضا بحب مروان للأهمية، وأي أهمية يحتاجها وهو قد صار سكرتيرا شخصيا للرئيس وأكثر من ذلك، يحضر معه كل الاجتماعات والزيارات ويعلم كل كبيرة وصغيرة مما يدور في دولاب الحكم، ويدللون أيضا بحب مروان للترف، صحيح أن مروان قد عرف عنه ميله للترف، لكن الدولة المصرية سخرت له كل الامكانيات خاصة وأنه زوج ابنة الزعيم الأشهر عبد الناصر، وسكرتير شخصي للسادات الذي عرف أيضا بميله للترف.
أما عن الخطأ في التوقيت فقد ورد في شهادة عاموس جلبوع ضابط متقاعد، مواليد 1939، ترأس وحدة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أمان بأن مروان لم يكن حاضرا أثناء اختلاف القادة العسكريين المصريين والسوريين حول ساعة الصفر ثم اتفاقهم على الساعة 14 بعد الظهر، وغيابه عن الاجتماع جعله يعطي المعلومة غير الدقيقة في يوم 5 أكتوبر 1973، ويلقون باللوم على إيلي زعيرا الذي أبلغه رئيس الموساد بما دار بينه وبين مروان في لندن، وزاعيرا هو وحده الملام على عدم إبلاغه لرؤسائه في الجيش لأتخاد التدابير اللازمة، وهذا أيضا قول مردود لأنه ببساطة قد أبلغ رؤساءه الدين تتوافرت لديهم معلومات من الجانب السوري باستحالة شن الحرب لأن السوريين يخشون مواجهة مفتوحة بدون المصريين والمصريون لا يستطيعون الهجوم لافتقادهم للقادفات بعيدة المدى التي يرفض السوفيات تزويدهم بها، لاعتبارات مالية بحتة، ولم يعلم الاسرائيليون بأن الرئيس الجزائري هواري بومدين قد هاتف الرئيس السادات من موسكو طالبا منه إرسال قائمة باحتياجات الجيش المصري لشن الحرب حسب شهادة ابنة الراحل السادات، وفعلا تم التفاهم مع الروس بتزويد الجيش المصري باحتياجاته من الأسلحة والطائرات، إذن فأشرف مروان كان يزود الاسرائيليين بمعلومات حقيقية منقوصة وموجهة بعناية من أجل تفادي الشك فيه أولا والتضليل عن طريق جعل نفسه المصدر الوحيد للمعلومات الموثوقة في حالة ما إذا كان للإسرائيليين مصدر آخر للمعلومات.
في إحدى المقابلات التليفزيونية قال زاعيرا بأن مروان ضللهم ليرد عليه رئيس الموساد بالعكس وأنه فاشل في استقراء المعلومات وأنه مدان من لجنة أجرانات الوطنية ومطرود من المخابرات، بعدها وصل الأمر إلى المحاكم حين أدين زاعيرا بالتشهير وذكر لأول مرة اسم الدكتور أشرف مروان بصفة الرجل الذي قدم خدمات جليلة لإسرائيل، وهناك بين أسطر التقرير الذي كتبه القاضي ونشر في الصحف، كان قد كتب مصير مروان قتلا لإسكات قضيته للأبد، لكن ألم يحن الوقت من أجل تكريمه الفعلي، فالرجل قد شارك في صناعة أمثر الحروب ضراوة في الشرق الأوسط وتسببت في تغيير الكثير في عالمنا العربي حينذاك وحتى اليوم وفي قابل الأيام.