أنت لا تتخيل كم أستحضر الموت كل دقيقة، كل الذين قابلوني قالوا لي: حديثك عن الموت وفعلك عن الحياة، هم لا يعلمون أن السرّ في السعي ثم السعي ثم السعي في محاولة منك لاستثمار الوقت الذي ستسأل عنه يوماً ما، هم لم يقرأوا عن حياة البائسين الذين يركضون كثيراً وفي بعض المرات يكون السراب مصير الركض، ولكن في مرات أخرى تكون غنيمة ما بعد الركض، ركض آخر..
لا أنشغل عن نفسي كما يعتقد الآخرين، ولكن في البحث عن نفسي اختلفت مع الأخرين في رؤيتهم لأنفسهم، إيماني أن النفس قد تكمن في كتاب أو قلم أو ورقة أو قضية أو حتى في موقف، نفسي لا التي يراها الآخرون ظاهراً، إنما النفس هي المكنونات الداخلية، النفس هي العثرات التي تحطمت أمامها بالكُليّة ثم نهضت جزئياً جزئياً حتى اعتدلت، إنما النفس ما سافرت في بحور العلم، وما اكتسبت من معارف وما لطمتك نفوس الآخرين، النفس في التقاعس والجرأة والقوة والإقدام، النفس في إعادة بلورة الذات والفكر، في إعمال العقل بما يشقي الروح ولكنه يهذبها.
إن النفس -كما أراها- في إعادة صياغة أولويات الحياة بعد صياغة الموت كنهاية حتمية، الموت الذي لا مفرّ منه ولا ذهاب إليه، حتى الذين يُقبلون على الموت بأيديهم هم في حقيقة الأمر هاربين منه، هاربين من الموت الذي يراه الآخرين حياة، هاربين الى عدالة الموت أمام سخط الحياة وظلمها، هاربين الى أزلية الموت من فناء الحياة، نحن البشر وإن تشابهنا كثيراً ولكننا نختلف أكثر مما نتشابه، نحن جزئياً نشبه بصمة الأصبع التي لا يمكن لها أن تتشابه بين اثنين، نحن نتشابه في التركيب الخارجي، ولكن الجوف وأساريره أكثر تعقيداً.
لذلك متعب جداً أن تتعمد فهم كل شيء حولك، أنت لا تعلم أن الكثير من الأفكار التي تتوصل لها، ستبقى عالقة في عقلك وقلبك، إذا تحققت تركت في قلبك ندبة، وإن لم تتحقق أحدثت ذات الأثر، الفهم الكبير لكل ما يدور حولك متعب لك، لأنه يستنزف الكثير من روحك وعقلك وقلبك، لن تستسلم أنا متأكدة، لأن الذي وصل لهذه المراحل المتقدمة من التفكير العميق، كانت بداياته مؤلمة ولكنه لم يستسلم، نحن لم نصل الى هذه المرحلة لأننا أردنا بالضرورة، ولكن كل ما حولنا يفرض علينا أن نكون هكذا، شخوص وظروف وأقدار ومادة، لن تستسلم ولكنك ستكون منهك، ستأتي لحظة تشعر وكأنك جبل على وشك الانهيار، ولكن فهمك العميق سيدعوك للتماسك أكثر، تماسك سيكون شبيهاً بالصلابة.
قد يراك البعض حجراً صلباً لا يؤثر فيك شيئاً، ولكن كل الشيء هذا يؤثر بك ويأخذ منك ويترك ندبة فيك، أنت لا توحي لهم بأنك مهتم، ولكن معركتك في داخلك تقول لك "بُح لهم سرّ الصمود، عاتب، هاجم، وجه اللوم لمن قصّر معك بعد أن جعلت الصلب بين يديه سائلاً"، وفي كل مرة تأخذك عزة النفس والكرامة الى منحاً بعيد جداً عن كل ما حولك، تتركك فيهم جسداً خاوي الروح، بينما قلبك وعقلك في مكان لا يعلمه أحد، ولن يعلمه أحد، لأن صمتك مختلف، لا يشبه الصمت الذي يعرفه الآخرون، صمتك هو سكوتك عن الشخص الذي بداخلك، بينما أنت تتحدث كثيراً عن كل شيء آخر لا يشبهك ولا يعبر عنك.
لكل إنسان منّا حلمه الذي يسعى إليه، وحدهم الجبناء الذين يقفون في المنتصف، وهذا المنتصف هو الذي يقودنا الى الموت المحقق، لذلك انحازوا دائماً على أي طرف ترونه يليق بأحلامكم، ولكن لا تغالوا في الأحلام، إن فلسفة الأحلام تكمن بأنها بضعة أوقات ترى فيها ما يروق لك وأنت خارج عن إرادتك العملية، بينما الواقع يختلف تماماً عن هذه الأحلام، الواقع أشدّ فتكاً بالأحلام لأنك تكون ممتلكاً لإرادتك، تكون القوة والغلبة لقراراتك العقلية لما لهواجس تأتيك عند النوم فتترجمها الأحلام، إن فلسفة الحُلم أنها تبدأ وتنتهي دون تدخل منك، لذلك هي زائلة ما أن استيقظت، بينما الواقع يسير بك وتسيّره أنتَ ما استطعت، الواقع مستمر وإن انتهيت أنت، وإن استيقظت أو رحلت، الواقع باقٍ ونحن الحالمون الراحلون.