وجدنا أنفسنا في بيئة لا تمارس الاحترام، وفي الغالب لا تُظهره إلا مجاملة، ثم إننا لم نتربى على معرفة حدودنا، ذلك أن هذه البيئة اعتادت أن تتدخل في خصوصيات الآخرين، ولا تعير حرياتهم أدنى احترام، وكثيرة هي السلبيات التي تنهكنا وسط هذا المجتمع. من خلال ذلك يتضح أن ممارسة الاختلاف أمر مرفوض وسط هذا المجتمع، فالأفراد المختلفون قد يتعرضون للرفض والعنف وما إلى ذلك، لأن منطق الجماعة هو الذي يحكم، وكل من يخرج عن هذه الجماعة يكون مخطئا في نظرهم، ولعل هذا هو السبب الذي جعل فكرة عدم احترام المختلف تروج، قد لا يتدخلون فيه مباشرة، لكن من وراء ظهره -نظرا لعدم قدرتهم على المواجهة- ينعتونه بأبشع الصفات ويقللون من شأنه، رغم أنه قد يكون صائبا في اختياراته، فتجدهم يُكذبون حقائقه، وينتقدون أسلوبه ونمط حياته، من الطبيعي أن ينظروا إليه هكذا، لأن ذلك يدفعهم إلى الاستغراب، كيف لا وقد قرروا بالإجماع أن يشبهوا بعضهم البعض.
نخطئ عندما نعتقد أننا نمتلك الحقيقة والصواب، كل شيء نسبي للغاية، ولا أحد قد يكون صائبا تماما، لذا، فلنتوقف عن محاكمة الآخر، وإدانته عندما يختار بإرادته أن يكون كما يريد، أو حتى عندما لا يختار بإرادته أن يظهر بالشكل الذي قد نحاكمه من خلاله، الأمور أعقد من أن نؤمن بها هكذا، الحقيقة بعيدة عن متناولنا، نحاول فقط أن نأخذ الأمور بالشكل الذي قد يكون صائبا، رغم أن ما هو صائب بالنسبة لنا قد يراه الآخر خاطئا، نخطئ كذلك عندما ننتقد من لا يشبهنا، ونلوم من يختلف عنا، ليس هكذا تؤخذ الأمور، سيكون رائعا لو تعلمنا أن نحترم الآخرين أولا، قبل أن نحترم اختياراتهم، كل فرد هو ذات حرة ومسؤولة عن هذه الحرية، وليس من الحكمة أن نتدخل في حريات الأفراد، لا لشيء إلا لأننا نظن بكل غباء أننا وحدنا من يمتلك الصواب.
قد تشجع العقيدة التي يتوارتثا مجتمعنا على الاحترام، ورغم ما ينطوي عليه هذا الأمر من تساؤلات، إلا أن الواقع يؤكد أن مجتمعنا لا ينسجم مع الأخلاق التي تدعو إليها هذه العقيدة، إنهم يركزون على العبادات ولا يعيرون المعاملات أدنى اهتمام، وهذه النقطة هي التي جعلت الأمور تخرج عن سياق بناء ممارسات وسلوكيات مبنية على الاحترام، في الغالب ليس للاحترام أي معنى وسط هذا المجتمع، وهذا الأمر لا يشمل المختلف فقط، بل إن الأفراد فيما بينهم نظرا لجهلهم وتجاهلهم للجانب المعاملاتي من عقيدتهم، لا يُقدرون بعضهم البعض، ولم يتعلموا بعد فن الاحترام، هم فقط يدّعون ذلك، لكن الحقيقة تتوارى خلف ما يُظهرون، وهذه الحقيقة مفادها أنهم يرفضون بعضهم البعض، ويكنون لبعضهم البعض غلا دفينا، ولم يعد بوسعهم أن يتحملوا بعضهم البعض، وكل ما يظهرونه ليس سوى مجاملة ونفاق، تؤكد مدى الخبث الذي يعشش في هذا المجتمع، كما يؤكد هذا الأمر على أنه ليس هناك أي معنى لذلك الاحترام الذي ينافقون به بعضهم البعض.
ولدنا مختلفين بالفطرة، لكل منا تفاصيله الصغيرة، تلك التي تجعلنا مختلفين بالأساس، لكن بقدر ما نكبر نتورط في الجماعة، وبهذا القدر من الذوبان نشعر بأننا متشابهون، نشعر وكأننا جسد واحد، من خلال انتماءاتنا، وننسى أن ما يحددنا كأفراد هو تلك التفاصيل الصغيرة، والتي تجعل لكل منا طبيعته الخاصة، وتفكيره، دون أن ننسى شكله، نحن ذوات مختلفة بالأساس، لكننا لم ندرك هذه المسألة بوعي، ذلك أن ما وجدنا عليه أباءنا لا يشجع على الاختلاف، ويدفعنا بالقوة لنذيب اختلافاتنا وسط جماعة قد تبدو وكأنها جسد واحد، وبشكل غير مباشر نرفض الاختلاف، وكل من يختلف عن الجماعة يستعصي على القبول، لأننا صرنا نرى الأمور بمنظار الجماعة، ونعتقد أن كل ما قد نتفق بشأنه ينبغي أن يؤخذ على محمل الصواب، ومن يتمرد على ذلك ينبغي رفضه، هكذا يفكر مجتمعنا، وهكذا أصبح الاختلاف منبوذا بيننا.
بما أننا لم نتعلم أن نحترم الاختلاف، كان طبيعيا أن لا نحترم الآخرين، لا يحترم أفراد الجماعة بعضهم البعض، لأنهم لا يتقنون هذا الفن، فما بالك باحترام الآخر المختلف، فإذا كانت حدة الاحترام تقل وسط الجماعة فيما بينهم، فإن هذه الحدة تتضاعف عندما نتحدث عن شخص مختلف، فأن تكون ذو لون مختلف، فقد يُنظر إليك نظرة تقلل بالأساس من شأنك، لأنهم تربوا على أفكار لا تمت للإنسانية بصلة، وباتوا يتعاملون مع الاختلافات الظاهرية باهتمام، ربما هنالك من الأسباب ما يكفي لكي تترسخ هذه التمثلات في أذهان الناس، وبدون وعي يتصرفون وفقا لهذه التمثلات، ويعتقدون في قرارة أنفسهم أنهم يمارسون الصواب، والحق أن الأمور لما وصلت الى هذا الحد يتضح أن هناك خلل من الأساس.
أن تختلف لغويا او دينيا أو جنسيا، فذلك لا يتم التعامل معه باحترام وسط مجتمعنا، بل لا يتم أخذ اختلافهم بعين الاعتبار، هم فقط أفراد ضمن جماعة كبيرة، ولا يحق لهم ممارسة اختلافاتهم وسط جماعة تعارفت على مجموعة من المحددات، لقد تم تحديد ما ينبغي أن يؤطر الجماعة، وكل ذلك لا يساير احترام الاختلاف، إذ لا ينبغي للمختلف أن يعبر عن اختلافه بحرية، بل يجب عليه أن يخبئ اختلافه وسط الجماعة، ويكتفي بممارسته سرا، هناك اختلافات ينظرون إليها باحتقار وأخرى برفض وأخرى باشمئزاز، وتتعدد الاختلافات نظرا لما لهذا الأمر من علاقة مع طبيعة الإنسان، ورغم ذلك يظل الانسان وسط هذا المجتمع حبيس أفكار تشجع على عقلية القطيع في مقابل رفض الاختلاف بكل ما يحمله من تنوع وغنى.
في العادة تتم تربية الصغار على احترام الكبار بل على الخوف منهم، ولا تتم تربية الكبار على احترام الصغار، وليس الاحترام بالمعنى الذي يتم به تجاه الصغير، ولكن بالمعنى الذي يصير فيه التعامل مع الصغير، كنوع من التدريب على الحرية، وعلى الايمان بالاختلاف في علاقاتنا بالآخرين، بالإضافة إلى احترام ميول كل طفل، دون إجباره على التنازل عن ميوله في مقابل مسايرة ما يتنافى مع ما يناسب اختياراته، الأمور لا تسير وفق ما ينبغي أن تكون عليه، يعتقد الكبار أنهم محقون فيما يفعلون وفيما يُدربون عليه أبنائهم، لكنهم مخطئون عندما يتعاملون بنوع من السلطة مع الأطفال، ليجعلوا منهم نسخا تشبههم في تفاصيل حياتهم، تلك التفاصيل الخالية من تعلم الاحترام بالمعنى العميق للكلمة وليس عن طريق القوة، فتعليم الاحترام بالقوة ليس له أي معنى، أما تعليمه بالسلوك الذي نمارسه مع الأطفال، ففي الغالب قد يؤدي الأمر إلى ما نريد، ونحن لا نريد إلا أن نمارس الاحترام في علاقاتنا الانسانية.