وبعد سنة من هجر منزلهم المدمر في حمص، تستجمع سارة قواها الخائرة وتحمل صغيرها سام بين يديها، وتذهب بإصرار حنينها للذكريات، وبكاء طفلتها أمل على ألعابها، تذهب وشعور الحنين المغلف بالخوف والرهبة يقصف برجليها التي تتقدم خطوة نحو أطلالها وتتأخر أخرى عن مشهد أنقاض أجمل ذكرياتها، وبين هذين الصراعين تصل بيتها المدمر الذي لم يسعفها غدر الزمان والإنسان لتأخذ منه أي تذكار قبيل الرحيل، تتجول بين الركام تحاول أن تجد أي شيئ تصحبه معها يهدئ من روع أحزانها، يكون كمسكن لبركان الحنين والأسى بداخلها. تبحث وتبحث فتجد لابنتها لعبة شاحبة اختفت ملامحها، ويقع نظرها على ورقة، تهرع نحوها وكأنها الناجي الوحيد بأعجوبة من أحبائها.. تفتحها وتقرأ وسط موجة دموع وبسمة عابرة.
عزيزي سام.. أكتب لك رسالتي هذه بعد استحضاري لكلِّ قوَّتي التي لم تتبعثر يوماً إلا في حبك، ولم تخر إلا بحضرةِ جاذبيَّتِك، نعم سأعترفُ أنني لستُ بتلكَ الصَّلابةِ التي كنتُ أحاولُ مواراة إحساسي بها، فبقدرِ لعنَتي للحبِّ وإنكاري لوجودهِ كان بلائي بعشقكَ وأكثر، إذ أدمنتُ عليك، على صور الجمال في وجهك وعذب السكر في صوتك، حتى طريقة نطقك للكلمات. فالقلب بات يشتعلُ شيباً إن خلا يومي منك، من وجودك أو حسك، أَحملُ حوّاسي وهناً على وهن في غيابك، ثمَّ ترتدُّ أحلامي مبصرةً، ويبرأُ كمهُ سعادتي، وتحيا آمالي بعد موتها كُلَّما رأَيتُك. نعم أعترف أني كنتُ أتحاشى ولوجَ بحر عينيك؛ لأني أدركُ أنَّ لغةَ العيونِ صائبةٌ لا تخطئ أبداً، وأنني فاشلةٌ في التمثيل، وستخونني لغة جسدي وإيماءاتي عندما أقولُ أننا زُملاءُ لا أكثر، رغم أنّي كنتُ أتمنى أن أفتحَ حجراتِ قلبي الأربع لترى كيف أنَّكَ أُكسجينُها، وما يضخُّهُ قلبي في دورتيه الدَّمويتين، لكنني كنت أخافُ من حكاياتِ الحبِّ؛ لأنّي لم أسمع بها إلا في الأساطير، فما كنتُ أودُّ يوماً أن أكونَ معذَّبةَ سامٍ أو مجنونته. لكني اليوم أكتبُ بعد أن فاضَ بركانُ حبكَ داخلي، فشفى برصَ حروفي المبعثرة المرتبكة، وهَداها لصوابِها، فنظَمَت لحنَ سلامٍ وصلَ صداهُ ناطحاتِ دمي.
بعدَ أن أعدمتُ كبريائي على بابِ عينيك، لمّا رأيتُ كمَّ الخوفِ فيهما عندما جئتَ هلعاً تبحثُ عنّي، وأنا أحزمُ حقائبَ قلقي وتعلُّقي لأرحل لمكانٍ يخلو منك، فأدركتُ يومها أنك قدري، ولا ملجأ لي منك إلا إليك.. واليوم أذيبُ جليدَ صمتي، وأكسرُ حواجزَ خوفي، وأعترفُ أن حبَّكَ استوطنَ قلبي المُرهف، أعترف أيضاً أنني لم أكن أحب الصيف أبداً، لكنه ارتبط بيوم ميلادك.. ويوم لقائي بك.. ومنذ ذلك اليوم وأنت تقويمي وفصولي وفارس حكاياتي، والترياق الذي ينتزع سمَّ الحياة من روحي، فكل شيئ يبدأ بك وكلُّ كوني يدور حولك. خرقت قوانين الفلك والطب والحساب، إذ لم يتوصل الأطباء لسر السحر الذي في عينيك، الذي يذيب جلَّ أحزاني، ويشفي كآبتي وضجري... وفي الحساب أبطلت أبسط القوانين حين قالوا أن الجمع يزيد الأشياء ولم يعلموا أننا واحدٌ لا نقبل الجمع، أو التجزئة.. شيئان متلازمان كما الليل والنهار... كما الشمس والقمر مع فارق مسافة الزمن فنحن لا نبتعد حتى نلتقي... علاقة معقدة ربما لن تصفها الكلمات.. فالصمتُ في حضرتك أبلغُ في وصفها.. وكأنَّ حواسي تصابُ بخللٍ جيني طارئ لما أراك، يتشنَّجُ كبريائي وأفقدُ رزانتي، والكونُ كله يرتبك.
قد تمطرُ السماءُ ورداً جورياً، ويفيضُ البحرُ عطراً عاجيّاً. تصبحُ السنينُ معكَ ثوانٍ، والثانيةُ في بعدكَ عمراً، فإني أحبكَ بكلِّ ما يصيبني في حضورك من تشتتٍ وتبعثرٍ لذاتي. بكلِّ تناقضاتي وكلِّ الشحِّ في كلماتي، لكن بكلِّ ما في قلبي من ولاء وهيام بك يا موطنُ بسمتي ومهد سعادتي، فكُن لي الشّاذ عن القاعدة، الخارج عن المألوفِ في العلاقاتِ الباردة المُستنزِفة. لا تقُل لي كلماتِ الحبِّ المستنسخة المستهلَكة، يكفي أن تشيرَ إلى صدركَ وتقول لي: هنا موطنكِ فتكونَ قضيَّتي، كفلسطينَ لا تقبل التجزئة، وأنتَ تعلمُ كم نقدِّسُ الوطنَ، ونبذل من أجله وفي سبيله الغالي والنفيس، ونرى خيانتَهُ أكبر جريمةٍ وعار. وأن الضعفَ أمامه قوةٌ، والقلب جلمد على من عاداه. فكن على سجيَّتك، كن صادقاً، كن على قدر ثقتي بإحساسي بك، ولا تصور لي نفسك ملاكاً لا يخطئ، فأكثر ما يقتلُ الحبَّ عملياتُ التجميل المصطنعة..
حدثني عن عيوبك قبل كلمات الحب، عن أفكارك وصفاتك، دعني أراك على حقيقتك بلا أي رتوش، ففي البدايات جميعهم رائعون وأشباه الرجال في النهايات حدث ولا حرج. احتوِ أخطائي ومزاجيَّتي، أبقِني في الحبِّ تلميذتك؛ ليظل حبكَ معجزة خارقة تلقفُ كلَّ أحزاني، وتمنعها من العبور عبر بوّابات الذاكرة، وناره تنزل برداً وسلاماً على قلبي. سارة.. تختم سارة رسالتها، وتقول بملء دموعها: قد كنت يا سام كما تمنيتك ورجوتك، كنت على مقاس أحلامي وأكثر لكن غدر الزمان كان أكبر.. رحمك الله يا حبي الأوحد ومعجزتي الخالدة. يا عبق فلسطين في أرض سورية.