تتخذ حياتك مجريات عديدة، تصادفك الكثير من الصعاب والعقبات، تسقط تارة وتنهض تارة أخرى، تنجح في كثير من المرات في تجاوز العراقيل، وتفشل في تجاوز أخرى، سنة لا تتغير و قضية لا تحول، منا من يجلس عمرا يبكي نفسه وحياته، ولا يرى غير السواد يحيط به، يلوم ويبكي ويعتب على العالم، يلعن الجغرافيا والتاريخ، ويعتقد في قرارة نفسه أنه لو وجد في مكان آخر، لكان شخصا غيره، ولكانت حياته تتخذ مجرى آخر، وأن كل ما يحصل له وسيحصل إنما هو نتاج أيادي خارج ذاته تنسج حياته بالطريقة التي أرادت، فهو بذلك يصنع من نفسه ضحية!
تفقد نفسك حينما تلعب دور الضحية، أو تسمح لشخص ما بإقناعك بأنك ضحية ظروف، ضحية جغرافيا، ضحية ماضيك، ضحية علاقاتك، إيمانك بأنك ضحية شيء ما يجعلك تلوم كل شيء خارج ذاتك، ويستحيل أن توجه أصابع الاتهام لنفسك أو تنتقدها، وبدل أن تصنع من ذاتك موضوعا قابلا للنقاش، تحلل فيه أفعالك ونتائج أفعالك، تحول تركيزك وتصبه في اتجاه الآخر. جرب أن تنتقد ذاتك، أن تطرح بعمق شديد سؤال "من أنا؟" أن تبحث عن مواطن قوتك وضعفك، عن زلاتك، عن الأفعال التي قادتك إلى ما أنت عليه الآن، حاول أن تتخلص من دور الضحية وتلغيه من حياتك، حينها فقط ستكتشف المعنى الحقيقي للحياة، المعنى الحقيقي للصعاب وما هي صانعة منك، الصعاب كالمخاض، يخرج بعدها نفس جديد للحياة، أنت قبل الصعاب وبعدها ولادة لروح جديدة.
لا يوجد آخر في غياب تعريف للذات، عرف ذاتك أولا، مالك و ما عليك، ما يدخل في نطاق مسؤوليتك والأشياء التي تقع خارج ذاتك، وأن تمتلك الحكمة لتميز بين الأمرين، أن تكون مسؤولا تجاه كل شيء تتحكم فيه بطريقة أو بأخرى، كطبيعة العلاقة التي تنسجها مع الآخر، الحدود التي ترسمها، الثقة التي تمنحها، التطلعات التي تنتظرها منه، أنت تتحكم في كل هذا فكيف لا يكون مصير علاقاتك من نتاجك! يدخل الإنسان نفسه في دوامة فشل علاقاته المتواصل، يبقى حبيسا لكل علاقة لم يستطع أن يكمل فيها بالطريقة التي رسمها في مخيلته، خصوصا إذا دخلت مشاعره على الخط لتزيد الأمر تعقيدا والطين بلة، يعجز عن تجاوز الأمر والمضي قدما بحياته، يجلس القرفصاء يبكي ماضيه ويتشبث فيه وكأنه كل ما يملك، وكلما فشل بعد هذا الخنوع في شؤون حياته عاتب فشل علاقته هذا، وانغمس في دور الضحية، وأحاط نفسه بالتمني والتسويف إلى أن يفقد البوصلة والاتجاه، وينسى وسط كل هذا أنه الشخص الثابت في حياته وأنه المرجع، وأن التجاوز والمضي هو الذي يصنعه ويعيده إليه بعد كل سقوط ونكسة.
ونحن أطفال صغار اكتسبنا ثقافة إسقاط أي فعل خارج ذاتنا، فلا نقول كسرتُ الكأس، بل نقول كُسر الكأس، جاعلين من الفعل الذي اقترفناه خارج نطاق مسؤوليتنا، فالفرنسي لا يقول فاتني القطار، بل يقول فوت القطار، ثقافتين متباينتين تصنعان أشخاصا يتحملون مسؤولية أفعالهم، وأشخاص يتهربون من كل شيء، جاعلين ذواتهم فوق كل خطأ، وحياتهم عبارة عن أقدار تسيرهم دون أن يكون لهم دخل في عزف موسيقى حياتهم. هذه الثقافة التي تحكمنا صنعت أشخاصا يحولون حياتهم إلى مسرحية لا يتخذون فيها دورا، بل هم الجالسون في المقاعد يشاهدون كل شيء يسير خارج إرادتهم وإدارتهم، خارج مسؤوليتهم وذواتهم.
قال صديقي يوما أنني لن أعرف ذاتي إذا لم أخض التجارب، ولا يشترط في هذه التجارب أن تكون جيدة، على العكس تماما التجارب السيئة والمؤلمة التي تعيشها هي التي تكشف معدنك الحقيقي، وتجعلك تكتشف ذاتك، وتعرف قدرتك على الصبر، طاقتك على التحمل، وأهم شيء تجعلك تتخلص من دور الضحية، حينها فقط تصبح حياتك نتاج أفعالك، قراراتك هي التي تحدد مصيرك، نظرتك إلى نفسك وتقديرك لها هو الذي يحدد الطريقة التي يراك بها الناس، أفكارك ومعتقداتك هي التي تحدد الطريقة التي تعالج بها ما تعيشه، الحياة تسير في هذا الاتجاه فقط، سبب تعقبه نتيجة. فكم من الوقت يلزمك لتعلم أن كل بحث في الوجود تشتهيه هو أنت، كل فشل، كل انتصار نبعك أنت، ماء الوادي لا يتشكل إلا من قطرات المطر، وواديك أنت ما هو إلا قطرات أفعالك، سواء انتصرت أو هزمت، لن تحصد إلا نتاج ذاتك، فكم من الوقت يلزمك، كم؟