تفسير الظاهرة الأدبية في ضوء ما سبق:
وهكذا وبناءً على ما سبق، يمكننا الاتكاء على نظرية المعرفة في تفسير الظاهرة الأدبية، لما لها من فضل عظيم في إلقاء الضوء على النشاط الفكري والنفسي والأدبي عند الإنسان، وتحديداً عندما نتذكر أن الله سبحانه وتعالى قد منّ على الإنسان فأعطاه العقل بقطبيه (الدماغ والقلب) وجعله كائناً مفكراً ومشاعر وعواطف، ومنحه القدرة على نقل فكره ومشاعره، بما أعطاه من نعمة البيان وبما منحه من أدواته، ومن أدلة ذلك في الكتاب العزيز، قوله تعالى: }علمه البيان{ (الرحمن: 4). وقوله: }واختلاف ألسنتكم وألوانكم{ (الروم: 22).
وقوله: }ألم نجعل له عينين . ولساناً وشفتين{ (البلد: 8-9). وقوله }وعلّم آدم الأسماء كلها{ (البقرة: 31). والأصل في التعبير والبيان أنه حاجة داخلية شعورية قلبية، لأنها تمثل الموقف في القلب، لكن الذي يتحكم في صياغتها الفكر والذوق، وهذا ما تبينه الآيات الكريمة في قوله تعالى: }يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم{ (الفتح: 11). وقوله أيضاً في وصف موسى عليه السلام عن نفسه وحاله }ويضيق صدري ولا ينطلق لساني{ (الشعراء: 13).
والبيان وسيلته اللغة وجهازه الصوتي والفكر، مما جعل هذا الإنسان قادراً على النقل والإيصال والإعراب عما يعتمل في نفسه، من خلال الأبنية اللغوية والأساليب الفنية وبما توصل إليه من الأجناس الأدبية التي تمكنه من إيصال ما يريد، ومن خلال البيان الذي يسحر القلوب بما يوصله من تأثير إلى نفوس المخاطبين.
وكما نعلم أن الأدب في أصله وجرثومته يعتمد على نقل الموقف الشعوري القلبي وبما تصدره مملكة الهوى والإرادة من مركَّب المشاعر، التي تبين قيمة الحقائق والمفاهيم التي قدمتها الرؤية الفكرية للأديب، أثناء حدث خارجي تحرَّش بشعور الأديب وأيقظ حالة الاهتمام والانتباه الشعوري في قلبه، وهو ما اصطلح عليه الشعراء والأدباء باسم: «التجربة الشعورية» للشاعر أو للأديب، وهي التي وصفها الأخطل بقوله:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلًا
وكلام الفؤاد له لغة خاصة به، هي لغة الذات، لغة أغوار النفس التي تختلف عن كلام اللسان الذي يمثل لغة المجتمع، لأن اللسان هو الترجمان الذي يترجم لغة الذات إلى لغة المجتمع من خلال لغة البيان.
من لغة الذات إلى لغة البيان:
ومن هنا لا بد لنا من متابعة الرحلة، حتى نرى كيف تتحول لغة الذات، التي قال عنها الشاعر (إن الكلام لفي الفؤاد) على لغة اللسان والبيان الذي يفهمه المجتمع، والأمر يتضح عندما نطلُّ على القلب فنرى أن المشاعر في داخله، أبه بالبحر المتلاطم الأمواج، تظهر على شكل موجات من المشاعر المختلفة في شدتها وتمازجها وطولها، تحكمها حالات من الاندفاع والتوتر المتأرجح بين القمة والقاع، تتداخل فيها الجوانب الشعورية بالجوانب الأخرى الحسية والفكرية، وتتعالى أمواجه بالوجدان والإرادة، وتظهر على شكل وجدانات تمتلئ بالأشواق والمعاناة والرغبات والنوايا والمقاصد لترسم قيمة الحقائق التي قدمت مع الرؤية الفكرية وتحدد الموقف الشعوري منها.
ومع ذلك تبقى لغة الذات مجهولة الدلالة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ثم صاحب ذلك القلب، لأنها لغة خاصة مبهمة غامضة متداخلة في أعماق النفس، إنها لغة تعتمد المشاعر والتوتر والنبضات أسلوباً، ولذلك هي تحتاج إلى نقلها من لغة النبضات والمشاعر الداخلية المبهمة، أو ما نسميه حديث النفس إلى لغة الخطاب الخارجي المتعارف عليها بين أبناء المجتمع، وعندها يحتاج المبدع إلى عملية إبداعية تحولها إلى لغة بيانية، قادرة على حمل ما يجول في ذلك العالم الغريب الخفي من نفس المبدع، من خلال نعمة البيان التي تعتمد الأساليب اللغوية، وحيث
توظف هذه اللغة في بناء معمار بلاغي يكون قادراً على نقل هذه التجربة، لأن البشر لا يفهمون اللغة الشعورية للمبدع، إلا بعد تحويلها إلى لغة بيانية اجتماعية جمالية، تترجم لهم عوالم هذه النفس إلى ما يفهمون من لغة اجتماعية لها تقاليدها الفنية المتعارف عليها بينهم.
وهنا تظهر قيمة البيان الذي منحه الله الإنسان حين يتمكن هذا الإنسان من تحويل لغة ذاته وحديث نفسه ومناجاتها إلى لغة البيان الموصلة المفهومة لدى الجميع، وهو أمر مألوف ومعروف في الآداب الإنسانية كلها، حيث أصبحت كل أمة لها لغتها البيانية الخاصة بها، وهي تمثل تقاليدها الفنية وعلومها البلاغية، وخبراتها التي تتميز بها في الأجناس الأدبية، وبما تجمع لها من خبرات تعكس ذوقها الجمالي الذي تتميز به عن غيرها من الأمم، وبما استقر لها من أساليب البيان بنوعيه: البيان العلمي والبيان الأدبي، لخدمة علومها وآدابها، وإلى هنا نتوقف في بحثنا عن الظاهرة الأدبية حيث نحتاج إلى بحث مستقل يتناول المحطة الأخيرة بشيء من التفصيل وعناوين جديدة تتناول طبيعة الأدب ووظيفة الأدب والتمايز بين الآداب العالمية.