لقد شهد التاريخ البشري قيامة عالمية أولى يوم الطوفان الأكبر الذي شهدته الأرض وكان النبي نوح عليه السلام ومن رافقه من الكائنات والمؤمنين شهود عليه. وهو حدث مفصلي في التاريخ الإنساني أباد حضارة إنسانية كاملة كانت سائدة قبله وجعلها أثرا بعد عين. ولم يبقى لنا إلا أن نضع فرضيات عدة حول تلك الحضارة التي دفعت الإنسان للتمرد الكلي على الله حتى يئس منه فأفناه وأحل محله المؤمنين به من البشر رغم قلتهم وأورثهم الأرض والكون بما فيه.
تشير بعض النصوص القديمة إلى أن هذه الحضارة كانت حضارة تقنية متطورة ولعل بعض مشاهد فيلم نوح العالمي توحي بذلك. كما توحي به بعض نصوص التوراة أيضا والفيلم مستوحى منها بالأساس فهو قد صنع على الرؤية التوراتية للنبي نوح عليه السلام وهي رؤية تلتقي وتختلف جذريّا في الأغلب عن الرؤية الإسلامية.
وبالإمكان أن نفهم من خلال بعض آيات القران الكريم التي تشير للأمم البائدة أنها وصلت في تمكّنها الحضاري إلى ما لا يمكن أن يتخيلها الناس في عصر النبي عليه الصلاة والسلام من قوة ومنعة وسيطرة على المادة وتطويع لها حتى ألانوا الحديد والذهب وفعلوا بهما من العمران والسلاح والأدوات ما يعتبر أمرا أسطوريّا في ذلك العصر كما تشير إلى ذلك بعض أساطير الشرق القديمة حول عاد وثمود والحضارة اليمنية القديمة (تشير بعض تلك الأساطير أنهم صنعوا آلات حربية من المعدن ولا ننسى ما يحيط ببناء سد مأرب من غموض). وكذلك ما أنجزه الفرعون المعاصر لموسى عليه السلام من إنجازات عمرانية تبدو لنا اليوم من عجائب التاريخ الغامضة.
لكن المشترك بين كل هؤلاء هو الإبادة الكاملة لهم والنهاية المأساوية التي تجاوزتهم نحو الإسكندر الكبير وحضارة الهون في شرق أوروبا والإنكا والمايا في المكسيك ودول أمريكا اللاتينية التي اختفت فجأة دون سابق إنذار حتى أن الغزاة الغربيين حين وصلوا لم يجدوا إلا أهراماتهم قائمة ولا حياة. وهناك دراسات تشير إلى أن سبب الانقراض هو البكتيريا التي حملها الرجل الأبيض إلى أرض القارة الأمريكية والتي كانت أسرع من حامليها في الغزو أرض وأمم لا تملك الحصانة الكافية ضدها ففنت وانتهت وذهبت في خبر كان. ومن هنا تولدت الكثير من نظريات نهاية العالم التي بشر بها الكثير وتجسدت في فيلم 2012 الشهير.
إن انتشار فيروس كورونا يعيد لأذهان الناس كل هذه البشارات حول الأبوكاليبس أو نهاية العالم ويرجع للواجهة كل النبوءات التي تتحدث عن نهاية الحضارة المعاصرة عبر فيروس قاتل يخرج من مخابر الأسلحة البيولوجية ولا يمكن السيطرة عليها أو عبر حرب نووية بإرادة الإنسان أو الآلة التي قد تخطأ في التقدير فتتسبب في التدمير.
لقد شهدت السينما العالمية في السنوات الأخيرة العديدة من الأفلام الغربية والصينية أيضا التي تبشر بداء قاتل يغزو العالم ويؤدي لفناء المليارات من البشر ويشرد البقية ويضعهم على حافة هاوية الجوع والفقر ويعيد السلطة الإنسانية إلى مرحلة ما قبل نشأة الدولة في شكلها القديم مع الإمبراطوريات الغازية كالبابلية والفرعونية والفارسية أو في شكلها الحديث مع الدولة الديمقراطية الاستعمارية حينا والتوسعية العولمية اليوم.
إن السينما العالمية أصبحت تبشر بالفناء والنهاية بل وأصبح الفناء مصدر دخلها. فأفلام الحرب الأخيرة ونهاية اللعبة حققا مليارات الدولارت من المداخيل بفضل ثانوس القادم لتحقيق نهاية الكون تحقيقا للتوازن فيه عبر إبادة النصف في الجزء الأول وإبادة الكل حين تبين أن النصف الباقي سيعيد نفس أسباب الدمار الأول. فكان خيار ثانوس النهائي الإفناء التام وإعادة الخلق من جديد.
إن غزو كورونا للعالم وعبوره للحدود وعدم قدرة الدول حد الآن على إيجاد العلاج الشافي له قد أعاد للواجهة نظريات النهاية تلك. وأصبح الكثير من الناس يبشرون بقربها وأن أدلتها قد وقعت (مع أنه واقعيّا لا نزال بعيدين جدا عن ذلك) وانتشرت الدعوة للعودة للإيمان وتطهير النفس من قبل المؤمنين والدعوة للانتحار وعدم انتظار الفناء لغيرهم. وزاد في الطين بلة الوباء الإعلامي (وهو أخطر من كورونا نفسها) عبر التهويل والمبالغة وإعادة نفس السيناريو الذي رافق انتشار أنفلونزا الخنازير وأنفلونزا الطيور. رغم أن الأنفلونزا العادية تقتل سنويّا أكثر من كل الأوبئة منتشرة ولكن لا يهتم بها أحد.
إن كورونا أحيت في الناس الخوف من الفناء القادم والنهاية الحتمية لأن الإنسان المعاصر غارق في المادية والاستهلاكية حتى فقد كل أسباب الطمأنينة النفسية التي تفترض توازنا بين الروح والجسد. فنحن اليوم نركز على الجسد ولا نلتفت مطلقا في الغالب إلى الروح. ولذلك كلما أحاط بنا الوباء إلا وعدنا باحثين عن تلك الروح خشية الموت القادم دون أن نعطيها حقها، إن الإنسان المعاصر يعيش تحت ظل الخوف من الطوفان القادم. وكلما غزا أرضه وباء إلا ونظر في الأفق البعيد منتظرا أن يغزوه الماء من كل مكان. متذكرا حينها أن له روح قد أهملها منذ قرون.
لقد دفع كورونا الإنسان اليوم لطرح الأسئلة العميقة حول الحياة والموت والمصير. فالوضعية القصوى التي وجد فيها نفسه وجها لوحه أمام الموت دفعت لإعادة التفكير في الحياة وكيفية العيش المشترك. ففي النهاية نمط حياتنا المعاصرة هو الذي كان السبب الرئيس في غزو كورونا وشقيقاتها سابقا. وكلما ظننا أن الإنسان سيتعلم الدرس ويعود إلى رشده كلما زاد غرقا في بحر المادة حتى أصبحت الروح من أمر الماضي. لن تستقيم حياة الإنسان إلا بالتوازن والانسجام بين الروح والجسد. دون ذلك سنشهد كل حين غزو وبائي يذكرنا بضرورة العودة لإنسانيتنا.. ندعو الله أن يكون لطيفا بعباده.