منذ انتخابات 2006، أي قبل خمسة عشر عامًا، كان دائمًا لدى حركة فتح توْقٌ شديد لإجراء انتخابات جديدة، إلى درجة أن عزام الأحمد (عضو مركزية الحركة) كان من أكثر المتحمسين والداعين إلى إعادة انتخابات 2006، بعد مضيّ أشهر قليلة على إجرائها، في حين أنه اليوم يُنظِّر بشأن خطر تكرار إجراء الانتخابات تحت الاحتلال.
والحقيقة أن كثيرين كانوا يرون أن الانتخابات ليست المدخل الأفضل للمصالحة، وأنها في الوقت الراهن قد تفرز أزمات عديدة، آخذين بالحسبان أيضًا عامل الاحتلال الإسرائيلي، لكن حركة فتح أصرت خلال رحلة التفاهمات السياسية الطويلة على البدء من نقطة الانتخابات التشريعية، ولم تكن تستوعب طرحًا آخر، إلى أن تم التوافق فعلًا على ذلك، وعلى أن تكون الانتخابات التشريعية الحلقة الأولى في سلسلة خطوات عديدة لإعادة ترتيب المشهد السياسي الداخلي الفلسطيني.
ثمة جهد ووقت ومال، بذلته مختلف القوائم المترشحة لخوض هذه الانتخابات، بعد أن صارت خيارًا إلزاميًّا، وفي اللحظات الأخيرة أصدر محمود عباس قرار تأجيلها، أي إلغائها عمليا، بعد أن صار واضحًا أن فتح الرسمية (جناح محمود عباس) ستكون أبرز المتضررين من إجرائها على صعيد الحظوظ الانتخابية، وهنا يمكن قول كثير مما بات معروفًا بشأن تصارع مراكز القوى والنفوذ داخل الحركة، وكيف أن تشظيها الواسع مقدمة لتهديد قبضتها السلطوية، فيما لو سارت الانتخابات في سياق سليم، وكان لها ما بعدها.
لكن الحال اليوم أن المشهد الفلسطيني العام بات مُغرِقًا في الفراغ والإرباك بعد قرار الإلغاء، وأن سيناريوهات خطِرة تلوح في الأفق، خصوصًا مع نزعة الاستقواء وإثبات الحضور التي تحاول فتح الرسمية تجسيدها في الشارع، وكان من تجلياتها الاعتداء بالرصاص على منزل المعارض والمرشح للانتخابات نزار بنات في الخليل، مع بعض الاعتقالات لفتحاويين معارضين ينشطون مع قوائم أخرى.
أما الفراغ فلأنّ شطب مسار الانتخابات سينعكس تلقائيًا وسلبيًّا على ما بعده، فضلًا عن كونه انقلابًا على التفاهمات السابقة وهدمًا لبنيان اجتهدت مختلف الأطياف الفلسطينية في تشييده، وحاولت إبقاءه متماسكًا قدر المستطاع، غير أنه تهاوى تحت وقع المزاجية الفتحاوية، لكي نعود مجددًا إلى حالة التفرد بالقرار السياسي، ورسم المشهد بريشة الوضع الفتحاوي الداخلي، وبما يناسب هذا الوضع ويستر ثغراته الواسعة.
وأما الإرباك، فلأن الفصائل الفلسطينية الوطنية تتنازعها اليوم مسؤوليتان: الأولى واجبها بأن تجابه سياسات الاحتلال المتصاعدة في القدس وعموم فلسطين، والثانية أن تضع حدًّا لهذا العبث بالمشهد السياسي الداخلي، في حين يبدو أن حركة فتح تراهن دائمًا على حرص هذه الفصائل على عدم انجراف الساحة الفلسطينية نحو تعميق الخلافات، فتتمادى (أي فتح) في انتهاج مواقفها المناوئة لتوجه الغالبية، وفي تكريس تسلطها وتفردها في إدارة المشهد، وفي الانقلاب على التفاهمات المختلفة، وآخرها الدوس على مرسوم الحريات بعد قرار تأجيل الانتخابات.
ثمة مسؤولية كبيرة تقع اليوم على عاتق الفصائل الوطنية، ومعها عديد القوائم المترشحة، وهي التفاهم إزاء رؤية وطنية واقعية وعملية للتعامل مع الحالة الطارئة على الساحة الفلسطينية، إضافة إلى حضور دورها في مواجهة سياسات الاحتلال، وهو ما يلزمها التلاقي والتفاهم وتحييد الاعتبارات الذاتية لأجل المصلحة العامة الحقيقية، وما تقتضيه من رؤى وخطوات ومسارات، على أمل التحرر من حالة التيه الأخيرة، والحدّ من تبعاتها اللاحقة، المنذرة بمزيد من الفوضى والقمع والتسلّط والإرباك