الضيق بالنقد العام سمة لا يكاد يستثنى منها أي ممن يتولون مواقع عامة، سواء أكانت في السلطة الحاكمة أو في التنظيمات والتيارات السياسية، ولعلّ تجربة الثورات العربية أفرزت إلى السطح ملامح العقلية العربية بجميع أبعادها، وكيف أنها تقابل الاحتجاج (الذي هو ترجمة عملية للنقد) بهجوم اتهامي مضادّ يقدح في نوايا المحتجين، ويقابل المنتقدين بسيل لا يتوقف من الاتهامات التي تتنوع وتختلف تبعاً لخلفية السلطة الحاكمة، لكنها تتشابه في مرجعيتها النفسية، وفي حجم تعصّبها للذات، وافتراض سوء النية في الطرف المقابل. ثمة مشكلة مستعصية تعاني منها مفاصل السلطة في بلادنا، ومثلها لكن بدرجة أقل الأحزاب السياسية، تتمثّل في نزعة التبرير الدائمة لأخطائها والتهوين منها، مع استهانة بأصوات النقد المقابلة، وعدم الاستعداد للإصغاء إلى ملاحظات الناصحين، وخصوصاً من يقرؤون مشهد الممارسة للسلطة الحاكمة أو التنظيم من موقع بعيد عن الهوى والمصلحة الشخصية، وبتجرد لا يمكن أن يوجد نظيره لدى المنغمسين في العمل الحكومي، أو المرتبطين بمواقعهم الحزبية ارتباطاً عضوياً يحول دون رؤية الأخطاء، أو الرغبة بمعالجتها، والتمعّن في آثارها العامة. وهذه المشكلة هي ترجمة لنزعة إنسانية لا تكاد تنفصل عن طبيعة البشر، مهما اختلفت ألوان أو خلفيات مواقعهم. من يكون في موضع مسؤولية عامة يغفل في الغالب عن كونه مؤتمناً على عمله، ويتلاش في اعتباره الفرق بين العمل في مصلحة خاصة وبين العمل العام الذي يفترض أن يظل على الدوام خاضعاً للمراقبة والمساءلة، ليس من قبل المستوى الأعلى منه في موقعه، بل من قبل الجمهور الذي يظلّ صاحب حقّ لا جدال فيه في الإشارة إلى مكامن الاعوجاج، وانتقاد التقصير، وإعلاء الصوت بهجاء المظاهر السلبية التي قد تنسي المسؤول في بعض الأحيان وظيفته الأساسية في خدمة الناس والوقوف على حاجاتهم، وليس الانشغال باكتساب الوجاهة والهيبة من مكانه أو وظيفته. وحين يصدر عن العامة مبالغات في النقد فواجب من هم في موضع المسؤولية تقديم إجابات واضحة لهم مشفوعة بالأدلة، والتحدث إليهم بشفافية وصدق، بدلاً من التبريرات التي تقدّم أحياناً كيفما اتفق وبهدف إسكات الأصوات المحتجة، وقطع الطريق على ثقافة النقد والتقويم من أن تنتشر في المجتمع. ليس في هذه الحياة حكومة أو تيار أو تنظيم معصوم عن الخطأ والزلل، مهما كانت رسالته سامية وأهدافه نبيلة، لأن الحديث هنا أولاً وأخيراً عن تجارب إنسانية تحتمل الأخذ والردّ، وليست منزّهة عن الانحراف أو الاعوجاج مهما اتخذت لنفسها من مبادئ وألزمت عناصرها بها. ومن يفهم هذه المعادلة سيكفّ عن التعصب الأعمى للذات، وعن التبرير الدائم لأخطائه أو إغفالها والتقليل من شأنها، وستعلو لديه قيمة النزاهة والمصداقية في التعامل. في أية تجربة إنسانية عامة يجب أن تظل خطوات الإصلاح والتقويم مرافقة مسيرتها، ويجب أن يظل حرصها على استقامة المسير مقدّماً على حرصها على نفسها ومصالحها الضيقة، لأن من يتغلّب لديه هدف البقاء والسيطرة على ما سواه من أهداف أساسية كانت منطلق مسيرته بالأساس سيتحول مع الزمن إلى أداة بطش لا تبالي بتجاوز المحرمات في سبيل التمكين للذات، وسيصبح أفراد منظومته عبئاً عليها وعلى مجتمعهم، وعاملاً سلبياً لا يساهم في التقدم بأهدافها الكبرى، بل يساهم في تراجعها والإساءة إليها. ولعلّ النظر بتمعن وتدقيق كبيرين في التجارب العربية المحيطة يغنينا عن آلاف الكلمات الوعظية في هذا السياق، ففي النهاية لن يشفع لأية تجربة إنسانية إلا استقامتها وتصالحها مع نفسها وجمهورها، وسعة صدرها وتفهمها لحاجاتهم وهمومهم، وقبل كل شيء تمسّكها بالإنصاف والعدل ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.