يرى مراقبون أن التقرير السنوي الذي أصدره مؤخرا "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب تحت عنوان "تقديرات إستراتيجية لإسرائيل لعام 2011" هو الأكثر سوداوية بين تقارير المعهد منذ إنشائه عام 1983. ويرى التقرير أن "الصورة قاتمة على كل الجبهات: تدهور خطير في الوضع الإستراتيجي لإسرائيل وفي مكانتها الدولية، تراجع مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط يُفقد إسرائيل هيبتها الردعية، الجبهة الداخلية ليست جاهزة لحرب، المستوى السياسي لا يبادر إلى شيء لتحريك العملية السياسية، وإسرائيل تبدو عاجزة أمام الربيع العربي". هذا الكلام ليس من عندنا، وبوسع المدافعين عن نظام بشار الأسد أن يواصلوا الحديث عن المؤامرة التي يقودها "برنار ليفي" لحساب نتنياهو، من أجل ضرب نظام المقاومة والممانعة في دمشق، أو تفتيت المنطقة وفق نظرية "الفوضى الخلاقة"، إلى غير ذلك من أحاديث المؤامرة الكونية التي يقودها الغرب وأمريكا من أجل السيطرة على المنطقة. لسنا ضد مقولة المؤامرة، فالغرب يتآمر علينا، والكيان الصهيوني جزء من المنظومة الغربية، وربما أصبح عبر أذرعه السياسية موجها لسياسات تلك المنظومة فيما خصَّ هذه المنطقة على وجه التحديد، لكننا نرى أيضا أن هذه الأمة ليست كمَّا مهملا تغوص في لحمها المؤامرات كما تغوص السكين في قطعة الزبدة، بدليل أن كثيرا من المؤامرات الكبيرة التي استهدفتها قد تكسَّرت على صخرة صمود أبنائها وقواها الحية؛ من مؤامرة أوسلو التي كان ينبغي أن تنتهي بتنصيب الكيان الصهيوني سيدا على منطقة الشرق الأوسط، إلى احتلال العراق الذي كان ينبغي أن ينتهي بإعادة تشكيل المنطقة على أساس مصلحة الكيان الصهيوني والولايات المتحدة بشكل خاص، وصولا إلى مشروع السلطة الفلسطينية بطبعتها الجديدة الذي كان ينبغي أن ينتهي بتأبيد الصراع وجعله مجرد نزاع حدودي بين دولتين لا تسيطر الفلسطينية منها سوى على ما يتركه الجدار الأمني من الضفة الغربية (أقل من خمسين في المئة)، مع أن هذا المشروع لم يُدفن عمليا إلى الآن، ولن تدفنه سوى انتفاضة شاملة تستلهم الربيع العربي. الظواهر الثلاثة الأساسية التي قد تقود الكيان الصهيوني إلى كارثة بحسب التقرير إياه هي "الربيع العربي، انهيار عملية السلام والتراجع الكبير في مكانة أمريكا عالميا"، وبمفهوم المخالفة، فالظواهر الثلاثة هي التي تمنحنا الأمل بالمستقبل الواعد لهذه الأمة، ومن ضمن ذلك إنهاء المشروع الصهيوني برمته، إضافة بالطبع إلى البعد الذي ورد آنفا ممثلا في تآكل الجبهة الداخلية الإسرائيلية على مختلف المستويات العسكرية والأمنية والسياسية والاجتماعية، وهذه الأخيرة هي السبب الذي أفضى إلى هزيمة تموز 2006 وفشل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتبعا لها الخضوع لحركة حماس والموافقة على جزء كبير من شروطها فيما خصَّ شفقة شاليط بعد الفشل في الوصول إلى الجندي رغم خمس سنوات من البحث المضني. لا أعتقد أن ثمة خلافا كبيرا حول هذا البعد الأخير، ربما باستثناء آراء لبعض المهزومين الذي لا يرون ضعف الطرف الآخر وتآكل مكانته. كما لا خلاف على تراجع مكانة الولايات المتحدة على الصعيد الدولي، وأهميته الكبيرة فيما يتعلق بوضع المنطقة، ليس فقط لأن دولة الاحتلال قد استندت إلى القوة الأمريكية في غطرستها وتجاهلها للقوانين الدولية، بل أيضا لأن الأمة العربية والإسلامية كانت الأكثر تضررا من التفرد الأمريكي بالمشهد الدولي. يبقى الربيع العربي الذي يشكل عنصر الخلاف بيننا وبين بعض القوم، وهنا يمكن القول إن أهمية هذا الربيع تكمن في تهديده للسياج الأمني (الرسمي العربي) الذي استند إليه الكيان، ومنح القرار للشعوب العربية التي لم ولن تعترف يوما بشرعية الاحتلال لأي شبر من الأرض الفلسطينية، كما لا ترى غير القوة سبيلا للتخلص من ذلك الاحتلال. عندما يفكر نتنياهو ببناء سياج أمني على الحدود الأردنية، وآخر على الحدود اللبنانية، فهذا يعكس إدراكه لحقيقة أن تدفق الملايين عبر الحدود في لحظة معينة لا يبدو مستبعدا، لاسيما إذا تزامن مع انتفاضة عارمة في الضفة الغربية. ولا تسأل بعد ذلك عن نهاية أحلام التسوية والتطبيع التي تتطلب ثمنا لا يمكن دفعه من دون تهديد المكانة الإستراتيجية للكيان برمته، مع أن دفع ذلك الثمن لن يقنع الجماهير العربية بشرعية الكيان. هل نحتاج أكثر من ذلك كي نتفاءل بهذا الربيع العربي المتزامن مع تطورات أخرى إيجابية ذكرت آنفا، أم أن علينا أن نشارك في "كربلائية" آل الأسد، وننسى أن شعب سوريا أكثر مقاومة وممانعة من أي نظام مهما كان، فضلا عن أن يكون نظاما دكتاتوريا فاسدا لا يفكر إلا في بقائه مهما كان الثمن (خطاب بشار الأسد ورامي مخلوف الموجه للغرب والذي يركز على أمن الكيان الصهيوني دليل على ذلك)
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.