ماذا يعني أن يتدخل صاحب قناة فضائية لقطع برنامج تليفزيوني لم يعجبه أثناء بثه على الهواء، ويقرر إلغاء البرنامج وتسريح العاملين فيه وإغلاق المحطة كلها بالضَّبة والمفتاح؟ ردي أنه يعني عند الحد الأدنى أمرين، أولهما أنه لم يعد هناك فرق كبير بين القناة الفضائية وبين أي محل بقالة أو جزارة أو سباكة، حيث بمقدور «صاحب المحل» إذا تعكر مزاجه لأي سبب أن يفعل ما فعله صاحب القناة. الأمر الثاني أن رأس المال أصبح يتمتع بجرأة غير عادية جعلته يقدم على كل ذلك دون اعتبار لأصول أو أعراف أو قانون. لا أتحدث عن حالة افتراضية، لكني أعني حالات تواترت في محيط القنوات الخاصة المصرية. حتى كادت تصبح ظاهرة تستحق الوقوف أمامها. فقد تابعنا خلال الأشهر الأخيرة قصصا اختلفت تفاصيلها ونهاياتها، لكن القاسم المشترك الأعظم بينها تمثل في أن أصحاب رؤوس الأموال أصبحوا يتدخلون في أعمال مقدمي البرامج. ويطلبون منهم الحذف والإضافة، ويعاقبون الرافضين للانصياع بالإيقاف المؤقت أو الإقصاء الدائم، في الوقت ذاته فإن أولئك الإعلاميين لا يجدون حماية من أي جهة. أحدث واقعة من ذلك القبيل شهدتها قناة «مودرن حرية»، التي كان أحد العاملين فيها يقدم برنامجه «محطة مصر». وطبقا لما نشرته الصحف فإن صاحب القناة لم يسترح إلى المادة التي جرى بثها في إحدى الحلقات، فتدخل لإيقاف البث أثناء الإرسال على الهواء، وحدث بعد ذلك ما سبقت الإشارة إليه. ولم يكن أمام مقدم البرنامج وفريق العمل معه سوى اللجوء إلى الاعتصام احتجاجا على ما جرى وانتهى بإغلاق المحطة. ونشرت صحف الجمعة الماضية (22/2) صورهم أثناء الاعتصام، الذي قرأنا أن آخرين تضامنوا معهم فيه، منهم ممثلون عن جبهة الإبداع المصري والمنظمة المصرية لحقوق الإنسان. تعدد تدخلات أصحاب القنوات يثير قضيتين رئيستين هما: •حالة الفوضى الإعلامية التي سمحت لكل من حصِّل مالا لا نعرف مصدره أن يؤسس قناة فضائية وأحيانا عدة قنوات، لكي يسهم في تشكيل أو تشويه الرأي العام. وبحيث يكون الشرط الوحيد لاستمراره هو مجاملة المجلس العسكري والحكومة، الأمر الذي أعادنا إلى أجواء الخطوط الحمراء والأبقار المقدسة، التي لا يجوز الاقتراب منها أو الاشتباك معها. ولأن الباب ينفتح على مصراعيه إذا ما تم تجنب ذلك المحظور، فإننا شهدنا زحفا مقلقا من جانب بعض الأثرياء لتأسيس الفضائيات. ولأن هؤلاء أصحاب مصالح بالدرجة الأولى، فإنه اعتبروا الفضائيات مصدرا جديدا للقوة يخدم مصالحهم أو يؤمنها. من ثم فإن الاستمرار أصبح مطلبا أساسيا وهدفا في حد ذاته. ولأن مجاملة السلطة وعدم انتقادها هو الضامن الحقيقي للاستمرار، فقد باتت مفهومة الأسباب التي تدعو أصحاب القنوات إلى إقصاء أي مذيع أو مقدم برامج «يجرؤ» على انتقاد السلطة. ومن شأن ذلك المناخ أن يؤدي إلى توحش أصحاب القنوات وإطلاق أيديهم في الحظر والتأديب، كما أن من شأنه تضييق مساحة حرية التعبير، والعودة بنا إلى تقاليد وأساليب النظام السابق. هذه الفوضى تحتاج إلى ضبط، يوقف التغول من جانب أصحاب رءوس الأموال ويضع شروطا لتأسيس القنوات وحدودا لنفوذ رأس المال المساهم فيها. إذ ليس مفهوما مثلا أن يشترط في إصدار الصحف ألا يملك الفرد أكثر من 10٪ من قيمة رأس المال في حين يتم إسقاط هذا الشرط فيما يتعلق بالتليفزيون والإذاعة. في هذا الصدد قرأت اقتراحا جيدا يستحق الدراسة للخبير الإعلامي الأستاذ السيد الغضبان في جريدة الوفد (23/2) دعا فيه إلى إنشاء مجلس وطني للإعلام يتولى تنظيم العملية ووضع حد للفوضى ضاربة الأطناب فيها. •القضية الأخرى المهمة هي أنه لا يوجد أي تنظيم نقابي يحمي العاملين في الإذاعة والتليفزيون فيدافع عنهم ويتظلم من القرارات المجحفة بحقوقهم. ذلك أنه في غياب ذلك التشكيل النقابي فإن أصحاب القنوات أصبحوا لا يترددون في الإطاحة بالعاملين فيها، وهم مطمئنون أنهم بلا ظهر يحميهم. لذلك فقد أصبح ضروريا تمكينهم من تأسيس تنظيم نقابي شأنهم في ذلك شأن أي مهنة محترمة أخرى. لا أشك في أن أهل الاختصاص في ذلك المجال لديهم أفكار أخرى ربما كانت أفضل مما سبق، ولذلك ينبغي أن يستمع إليهم، لأننا لا نريد انفلاتا إعلاميا يضارع الانفلات الأمني.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.