لم يعد خافيا على الجميع الأزمة الحقيقية التي يعاني منها قطاع التعليم العالي على مستوى الطلاب والهيئات التدريسية في مجال البحث العلمي وتطبيق المعايير الدولية، وهذا الاختلال في رأس الهرم التعليمي وقاعدته أدى إلى تراجع التصنيف العلمي لبلدنا وجامعاتنا على مستوى العالم. وقد اعترف وزير التعليم الأسبق وجيه عويس العام الماضي بعلم الوزارة بقيام طلبة الدراسات العليا بشراء الأبحاث والرسائل الجامعية، وأكد كونه عملا غير قانوني بالرغم من وجود مكاتب تجارية متخصصة في هذا المجال!!! ولكن تزوير الرسائل الجامعية والأبحاث ما هو إلا نتيجة نهائية وحلقة أخيرة في سلسلة التقصير والفساد العلمي الذي يبدأ من المدارس التي لا تعلم الطلاب أساليب البحث والتوثيق ولا تشجعهم على القراءة ولا توفر لهم أحدث المصادر والدوريات، بل تقبل منهم معلومات سطحية من محركات البحث البسيطة وتعتمد أسلوب التدريس التلقيني وإفراغ ما تم تلقينه للطالب على ورقة الامتحان. أما الأستاذ الجامعي، فلا يملك الوقت للأبحاث بسبب الركض وراء لقمة العيش ما بين دوام أساسي وجزئي بل قد يمتهن الأستاذ نفسه كتابة الأبحاث وبيعها، منحيا جانبا النزاهة والأمانة العلمية، ولو لم يعمل في وظيفتين فإن العبأ التدريسي والتصليح لمئات الطلاب بأمانة ودقة سيأتي على معظم وقته، وإذا وجد فرصة وراتبا أفضل فإنه يترك الجامعة المحلية إلى أخرى عربية وكثيرة هي العقول المهاجرة من أصحاب الكفاءة التي تترك بلدها، ولذا نجد كثيرا من الأقسام الأكاديمية في الجامعات يرأسها قائمون بالأعمال، لأن رؤوساء الأقسام يجب أن يكونوا من حملة درجة الأستاذية professorوهؤلاء إما ماتوا كمدا أوهاجروا حفظا لكرامتهم!! والمعلوم أن البحث العلمي يحتاج إلى بيئة مناسبة تشجعه وتساعد عليه وهذه مفقودة في بلدنا، فالأساتذة في الغرب لهم يوم تفرغ من كل أسبوع مدفوع الأجر للقراءة والبحث، وفي بلادنا يستوردون المعايير التعليمية العالمية دون وجود أرضية، ويأخذون من الجمل أذنه، ويطالبون الأستاذ بالبحوث العلمية من أجل الاعتماد المحلي والدولي دون توفير أبسط الوسائل كالوقت والمراجع، ثم هناك ذنب مضاعف على لجان البحث العلمي في الجامعات التي لا تقوم بدورها في الفحص والمتابعة للانتاج العلمي وتتعجل إغداق الألقاب وإعطاء الدرجات!! إن هذه الممارسات الخالية من الأكاديمية والسمعة التي تتبعها هي ما تجعل جامعاتنا على الأغلب تفضل خريجي الجامعات الغربية ظنا أنهم الأفضل في مجال البحث العلمي. ولكن من كان يظن أن الفساد له وطن، وان كان في أوطاننا أكثر استشراء، أودين أو مكان أو ميدان فليعلم أن الرئيس الهنغاري شمت يحاكم بسبب اتهامه بسرقة رسالة الدكتوراة التي ترجمها ترجمة حرفية من كتاب بلغاري عن الألعاب الأولمبية، ولكنه على الأقل كان لديه الشجاعة الأدبية للاستقالة من الحكم بعد الفضيحة! ربما يجب أن نمنحه لجوءا علميا عندنا، ونؤمله أن مستقبله السياسي لم ينته بعد ففي بلادنا هناك شهادات فخرية جاهزة للتوزيع على الدوام ويمكن لصاحبها أن يصبح نائبا أو وزيرا أو مفكرا أو منظرا!!
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.