قبل 34 عاماً، أوقف رصاص المستعربين أحلام الشاب عماد محمود بشارات، من بلدة طمون في محافظة طوباس.
يجلس الزوجان بشارات في غرفة تحتفظ جدرانها برائحة عماد، صور، وشهادات علمية، وميداليات، ونعي لقائد مجموعات الفهد الأسود، ويمسكان ببلوزة منسوجة على هيئة كوفية ترفض الأم غسلها منذ رحيل فلذة كبدها، وتقول إنها تشم رائحة ابنها فيها كل يوم. ويتناوب الزوجان على الجلوس في ظل شجرة زيتونة غرسها الشهيد قبل رحيله، أما الأم فتحرص كل عام على توزيع زيت من الشجرة عن روحه.
اللقاء الأخير
وتعيد الأم حليمة يوسف (68 عاماً) بقلب يقطر حزنًا استذكار اللقاء الأخير بابنها البكر، فقد طلب يوم استشهاده أن تعده له ولرفاقه إفطار رمضان، وخرج قرابة الواحدة ظهرًا إلى مخيم عسكر القديم لحل خلاف بين نشطاء الانتفاضة، انتهى بكمين لوحدات المستعربين الخاصة، الذين تنكروا بزي نساء، كما عرفت العائلة لاحقًا.
تروي: "خرج عماد ورفيق دربه، وقالا لي إنهما سيتناولان طعام الإفطار على موعده، وسيكونان عندها قبل الغروب. فوضع ابني الحطة (الكوفية) على رأسه وأراد الخروج، وطلبت من صاحبه الذي لا يفارقه أن لا يصطحب عماد، ويأخذ مقابله اثنين من أخوته، فضحك، وأجابها: (ما تقلقي، وصعب حد يشبه عماد)، وخرجا دون أن يخبراني عن طريقهما".
تتابع بحزن يأسرها: "بدأت أعد الفطور، وجاءت عندي جارتي الحاجة نعمة عبد الكريم لشراء الجبنة، وأحسست بأن شيئًا ثقيلاً يحط على صدري، وبدأ قلبي يقفز من مكانه، وقلت لها: (انحطم قلبي، وخايفة على عماد)، وبعد وقت قصير، سمعنا صوت سقوط (كاسات الزجاج) التي احتفظت بها من هدايا نجاح ابني في (التوجيهي)، فقد كان على ظهر الخزانة، وأخفيته لزفاف عماد لكنه تحطم، دون أن يمسه أحد، وشعرت بأن شيئا ما أصاب ابني لحظتها.
ووفق ما تتذكره الأم ولا ينساه الأب، فقد وصل ابنهم إلى قلب مخيم عسكر القديم ظهيرة يوم الأحد، 15 آذار 1992؛ لتطويق خلاف فضائلي بين (فتح) و(الجبهة الديمقراطية)، واجتمع نحو 30 مطارداً فوق سطح منزل، غير أن رصاص الوحدات الخاصة انهال عليهم، فاستهد عماد ونعيم اللحام وحجاج حجاج، وأصيب رفيقه في ذراعه، ونجا بأعجوبة من موت محقق، بعد أن سقط في قلب شجرة.
تسرد الأم بعينين دامعتين: "حين خرج ابني لبس كل شيء جديد عنده، بلوزة بيضاء، وسترة رمادية، وبنطالاً جديدًا، وبوت (فورزا)، ورفض قبل خروجه أن يلبس جوارب قديمة، فأرسل أخيه إلى دكان أبو النعيم لشراء جديدة بيضاء اللون، وخرج وكأنه عريس".
شعر ومخدة
وبحسب ما تبوح به، فإنها وبعد وصول الخبر المؤلم، طلبت من أصحابه ورفاقه وقت التشييع أن لا يضعوا الكثير من التراب على شعر عماد المُجعد، فيما أعطاهم والده المخدة الصغيرة، التي أحضرها ابنه خلال مكوثه لسنتين ونصف في ألمانيا، ليريحوا رأسه، ويحافظوا على وسامته في قبره.
تقول الأم: "كان عماد أبيض البشرة والقلب، وحباب، ومتوسط القامة، وحنون، وسجل بعد نجاحه في الثانوية العامة التمريض في جامعة النجاح، ودرس فصلاً واحدًا ولم يكمل أحلامه، ورفض إلحاحي تزويجه، فكان يقول لي ( أنا لا أصلح للزواج يا أمي)".
توالي: "قبل أيام من استشهاده، كان ابني يتكئ على مكان وضع الفراش، وأخبرني بأنه سيرسل لي معاشًا دائمًا، ورجوني أن لا أحبه أكثر من أخوتي، حتى لا يتضايقوا. واعتاد أن يأتي من خارج البيت ويسأل عني، ثم يطلب مني الجلوس ليمشط شعري. وأحس إلى اليوم بضحكاته التي لا تغيب".
أمضى بشارات أكثر نحو سنتين ونصف في ميونيخ بألمانيا، فقد وصلها في الشهر التاسع من عمره، وأصيب بمرض الحصبة هناك، وابتعد عن الرضاعة الطبيعية منذ الشهر التاسع، وفي السنة الثانية، اشترى والده له دراجة هوائية، وكان ينطلق في الشارع بسرعة، ويلحقه رجال الشرطة خوفًا على حياته من السيارات. وسبق أن أقام والده 12 سنة في ألمانيا موظفاً في شركة سيارات ذائعة صيت بسرعتها.
ويقف عماد في الترتيب الأول لعائلته، إذ أبصر النور في 23 تموز 1969، تبعه أخوته: نهاد، وعلي، وكارم، وجهاد، ويوسف، وعدي، ونعمة، وأمونة، لكنه الكتوم، والذي لا يبوح بسره لأحد مهما كان.
تقدم الأم مشاعر مختلطة فتترشح للدموع تارة، لكنها تبتسم وهي تسترد سيرة عماد، فتقول: حين كنا نشتري الملابس للأبناء في الأعياد والمناسبات، كان عماد يقبل بأي مقاس، حتى لو لم يناسبه، وفي إحدى المرات لبس بنطالاً قصيراً، ولم يرغب في إزعاج أخيه نهاد، الذي اختار البنطال الطويل.
أعلام وأحلام
واستنادًا إلى الأم المجروحة، فإن عماد ذات مرة كان كثير الحركة في نومه، فراقبته لمعرفة السبب، لتكتشف أن ولدها يخفي على جسده مجموعة من أعلام فلسطين تحت ملابسهن فضحكت على فعلته .
توالي: "يزورني عماد في المنام كثيرًا، وخاصة عندما نمر في ظروف صعبة، أو يكون أحد أخوته في مرض، وفي كل حلم يعطيني المال، وقد سلمني مرة ورقة لزيارة بيت الله، وقد عاتبني لغيابي عن زيارة قبره. وفي حلم ثان، عاتبته على عدم السؤال عليّ فأجاب: ( ما عندي قلب، أخذوه مني مع كبدي بالمشرحة يوم استشهادي)".
تقول: "حين وصل جثمانه من معهد أبو كبير صباح اليوم التالي، وجدت جسده مخيطًا، وصرت أتذكر حلم عماد بما فعلوه فيه من سرقة لأعضائه".
وأعادت عائلة بشارات إطلاق عماد خمس مرات، الأولى لابن الأخ نهاد، ثم ابن الأخ علي، فأبناء الخال والأقارب: أمجد، وخالد، وناصر. تقول الأم: يشبه حفيدي عماد نهاد ابني( 17 عاما)، وحين يزورنا أحضنه كثيراً، ويكرر بعض صفات ولدي الذي لن يعود.
تنهي الأم: "يذكرني الهواء الذي أتنفسه كل لحظة بعماد، وتعيدنا الزيتونة التي غرسها وسط البيت به، وكلما أمشط شعري أتذكره ضحكاته، أما دموعي ودعواتي فهي كلها له، ولو بقي على قيد الحياة لكان أولاده طوله، ويزورنا أصحابه فأتوجع على فراقه وأدعو له بالرحمة".