خبز الطابون الذي يتلذذ عاشقوه به ساخناً ناضجاً، بات صورة أصيلة للتراث الفلسطيني، الذي تمسك به أهل فلسطين في سبيل الحفاظ على شيء من هويتهم التي مازال الاحتلال يعمل على طمس معالمها يومأ بعد يوم، فلا يزال خُبز الطابون يرسل عبقـه الجميلُ إلى أنوف الفلسطينيين فيذكرهم بالماضي الرائع، والجلسات العائلية، واشتعال الحطب وجلوس الأمّهات أمام الأفرانِ يقلبّن ارغفة الخبز، حولها الأولاد يلعبون ويمرحون، مشهدٌ يعيدُ الفلسطينيين إلى أيّام خلت جميلة، وما زال البعض يتمسك بها.
في ساحة بيتها، تجلس الحاجة ندى أبو ذان، من سكان مدينة يطا جنوب الخليل، وأحفادها يتجمهرون من حولها، لتجهيز خبز الطابون، فهي ما زالت تتمسك به رغم التكنولوجيا وطغيانها على الحياة، و تراجع استخدامه، وإحلال الآلات التكنولوجية الحديثة كالمخابز وغيرها.
إرث جميل
تروي ندى، الحاجة الستينيّة، عن لذة وفخامة هذا الإرث الجميل، "منذ صغري، مروراً بزواجي، وحتى عمري الآن الذي يتجاوز الستين، وأنا أخبز على الطابون منذ أن كنت بعمر السادسة عشر من عمري، حيث كان لدى عائلتي طابون صنعته جدتي، من "الطين والتبن" وكان هذا الطابون يخبز عليه عدد من نساء قريتنا، كزوجات أعمامي وأمي".
وتكمل أبو ذان: " لكن مع مرور الزمن، وتعلق الناس بوسائل الراحة في جميع المجالات، اندثرت هذه العادة عند العديد من السكان، فقبل عامين قام زوجي بشراء فرن يعمل على الغاز، وعملنا عليه لمدة شهرين، لكن لم نتذوق لذة او طعما للخبز كالتي كنا نتذوقها سابقا أثناء صناعته على الطابون، فعملت على إعادة تحمية "اعادة اشعال" الطابون بالمواد الطبيعية وروث الدجاج، ولا أزال أستخدم هذا الطابون حتى هذا اليوم".
وتتابع: "نستخدم خبز الطابون في تحضير العديد من الوجبات، من أشهرها المسخن، ومناقيش الزعتر والجبنة، ويعدّ خبز الطّابون من أنواع الخبز المهمّة التي نحضّر منها بعض الأطباق العربيّة، وتعود أصوله إلى فلسطين حيث قام الفلّاحون هناك بتصميم مكان لتحضير هذا النّوع من الخبز".
الحاج خليل العمور من يطا جنوب الخليل متمرس في صناعة الطابون المنزلي التقليدي عند الطلب حتى يومنا هذا. وفي حديث خاص لمراسلة "فلسطين الآن"، قال: "تعلمت صناعة فرن الطابون من الحاج ربحي الشريف، وهو أحد أكابر مشايخ مدينة الخليل، منذ زمن طويل، حيث كنّا قديماً، نستخدم الطين الأحمر، وخلطه بالقش والتبن، وتدوير الطينة حسب الشكل المطلوب، وهذه المادة كانت لا تعمر كثيران لأنها لا تتحمل الحرارة الناتجة عند اشتعال الطابون".
ويضيف العمور: "تطورت أوضاع العمل اليوم، مع دخول المواد الصناعية، حيث بتنا نمزج الأتربة الجيرية مع الإسمنت، وصبها على قالب حديدي يتم تصميمه مسبقا، ثمّ نعرّضه لأشعّة الشّمس المباشرة حتّى يجفّ تماماً، وكذلك لا ننسى صناعة غطاء الطابون من نفس المادة" .
متمسكون به
بدوره، قال بائع الخبز، وصاحب مخابز فنون في محافظة الخليل، الشاب واصف التميمي، في حديث مقتضب، لـ"فلسطين الآن": "بالرغم من انتشار المخابز الآلية واليدوية، وإغراق السوق بالخبز العادي، ونسيان الخبز البلدي المحلي، كالطابون مثلا، إلا أنه يوجد من يتمسك بالطابون وبغيره لا يهنأ له طعام" .
ويضيف التميمي"هناك زبائن لا يشترون إلا خبز الطابون، ونحن بدورنا نتعاقد مع أهالي كثر من المناطق التي يتم صنع الطابون فيها، ونشتريه منهم، ونبيعه للراغبين به بربح يسير، لكي لا نخسر زبائننا".
ويفند واصفًا في حديثه، عن شدة ولع المواطن الفلسطيني بخبز الطابون، حيث يقول، بأنه أطيب كل أنواع الخبز طعماً، ناهيك عن طبيعيّة طهيه وصناعة العجينة" .
ويبقى خبز الطابون، في مدن فلسطين، ينافس الأنواع الأخرى، في ماضٍ جميل وحاضر مشرق بالتمسك بالإرث وتناقله عبر الأجيال.