10.57°القدس
10.33°رام الله
9.42°الخليل
16.09°غزة
10.57° القدس
رام الله10.33°
الخليل9.42°
غزة16.09°
الأحد 22 ديسمبر 2024
4.59جنيه إسترليني
5.15دينار أردني
0.07جنيه مصري
3.81يورو
3.65دولار أمريكي
جنيه إسترليني4.59
دينار أردني5.15
جنيه مصري0.07
يورو3.81
دولار أمريكي3.65

خبر: الخروج من الشرنقة

لعله من طبيعة الخليقة مرور الكائنات بمرحلة تكوينية تتوفر فيها شروط الحياة والنماء والاستمرارية، وفي هذه المرحلة يكتسب الكائن صفاته الخلقية، فالإنسان مثلا يرث عن أبويه صفاته الجسدية، حتى أنّ بعض الطباع، وإن كان معظم العلماء يعتقدون أنّها مكتسبة، يمكن أن تورث. وقد تمتد مرحلة التكوين مع الإنسان حتى بعد خروجه من رحم أمه، إذ يقوم الآباء والأمهات بمحاولة توفير محاضن وبيئات آمنة يرضون عنها تحمل معايير فكرية واجتماعية معيّنة، وهذا أمر طيب، وجزء من القيام بأمانة التربية، إلاّ أنّ محاولة الإحاطة والتسييج الدائمة للفرد لها مخاطرها، فالإنسان قد يظن أنّ كل الناس يشاركونه مبادئه وتصوراته، وأنّ الخارجين من الدائرة الضيقة مهما اتّسعت ضالّون مستبعَدون يُمنع الاقتراب منهم! إنّ مرحلة الشرنقة التكوينية لا بد منها في حياة الإنسان لأنها تكسبه هويته، غير أنّ مرحلة الخروج منها بذات الأهمية، فهي الاختبار الحقيقي لمرحلة الغرس، ومن لم تكن جذوره قوية في البداية ستذروه الرياح عند الخروج للمجتمع، وكم نرى من الناس من يغيّرون مبادئهم كما يغيّرون ملابسهم! إنّ الخروج من مرحلة التكوين إلى مرحلة الانطلاق لهو الترتيب الطبيعي لسياق حياة من يعتبرون أنفسهم من الدعاة، فإقامة الإسلام لا تكون فقط على النفس والأهل والعشيرة الأقربين، فهولاء ليسوا كل المجتمع، وأفكارهم وأخلاقهم لا تمثّل الأطياف كلها، بل إنّ في المجتمع من يعارضهم حد العداء لمجرد أنّهم يحملون فكرة الإسلام وإقامة الشرع حتى لو كانوا يمدّون للآخرين ذراعيهم للفهم والاستيعاب والتعاون! ويزداد الخلط والنزاع، بحيث لا نعود نفهم هل يعارض الناس الدين أم من يمثّلونه؟! وما هو فهمهم لدور الدين في الحياة الشخصية والعامة؟ ليس أجمل ولا أسهل من أن يعيش المرء في بيئة ملائكية معقّمة محصورة يقيمها على كوكبه الخاص، والدخول إليها لا يكون إلاّ بالإذن والتمحيص والتزكية، ولكن ماذا عن بقية المجتمع؟ هل نزل الدين للمتقين ورواد المساجد والصائمين نهارا القائمين ليلا؟ ألَم ينزل رحمة للعالمين، وهذا يشمل بالضرورة من يختلفون في الدين والأفكار والهوية؟ أين الآخر المختلف من تربية أبناء الحركة الإسلامية في مرحلة التكوين؟ هل نملك وسائل خطاب وتقارب مع غير المحجبات والشيوعيين واللادينيين الذين يعتقدون أنّ المتدين يراهم كفرة ضالّين، بل ويتحيّن الفرصة للانقضاض على حياتهم؟ هل نتربّى على إزالة الحدود والبحث عن البذرة الطيبة من روح الله في نفوس الآخرين وعامة المجتمع من غير أصحاب العداء المعلن وغير المبرر؟ أو ليس بعض المتدينين من أسرع الناس في استصدار الأحكام على الآخرين بالقبول أو الرفض أو الهدى أو الضلال؟! هل نستطيع أن نتعامل بأريحية وبصدر رحب مع المخالفين، مع البحث عن نقاط مشتركة وقبول العذر عند الاختلاف؟ ولكن ماذا عن المبادئ والثوابت، ألا يمكن أن تميع وتتلاشى حتى لا نعود نعرف لماذا أقبلنا على الناس أصلا؟ إنّ الخروج إلى المجتمع يجب أن يكون مشروعا له رؤية وأهداف ووسائل، ليس أقلها تحييد العداء، إذا لم يكن الهداية التامة وتوحيد الصف. إنّ المشروع الإسلامي لن يقوم على أكتاف أبناء الحركة الإسلامية فقط ما لم يجد أغلب الناس لهم زاوية تسعهم ويستطيعون الحياة والعمل من خلالها، فكثيرون يعتقدون أنّ الإسلام سيغيّبهم وراء الشمس، وما لم يقتنعوا أنّه سيضعهم في دائرة الضوء والحدث فسيبقى التنازع والتشويه للصورة والمشروع الإسلامي قائما. وهذا لا ينفي أنّ الإنسان بطبعه يبحث عن مثيله ومن يشابهونه، وهؤلاء لا غنى عنهم في كل المراحل، فكثرة التعرض للمجتمع المخالف قد تؤثّر على توازن المرء، ولذا هو بحاجة إلى نقطة مرجعية يعود إليها للتزود وإعادة الإنطلاق، ولكن الأضداد أيضا يمكن أن تتجاذب كما يقول المثل الانجليزي "opposites attract"، وهذا يعني إمكانية التوافق والتعايش والتعاون ضمن فضاء الاختلاف. لقد ذمّ كثير من دعاة الإسلام اقتصار أبنائه على مرحلة الشرنقة وعدم الخروج منها، فقال أحدهم: "إنّ كثيرا من أبناء الصحوة الإسلامية يعيشون في الظل ويفضّلون النشاط الدعوي في الكواليس، ويحصرون العمل الإسلامي في الدروس والحلقات والندوات على أقصى الاحتمالات، فهم دأبوا على منهج "التربية الكهفية" التي تصنع من الفرد مواطنا صالحا، ولكنه سلبي لا يتحرك إلاّ بالأوامر، وهذا انحراف في تطبيقات المنهج التربوي الإسلامي". بقاء الشرنقة ضروري حتى يبقى أصل الحياة وأصالة الفكرة وامتداد الجذور، ولكن من لم يخرج منها لن يكبر أفقه ولن يتعلّم التحليق. لقد ظلّ الإسلام طويلا في مرحلة الشرنقة وقد جاء الوقت ليفرد جناحيه بشرط أن يكون المحلّقون به يدركون استحقاقات الامتداد والوصول إلى معالي المحلية والعالمية. لم يعد بالإمكان أن نقول كلمتنا ونمشي، فالوقت موات لنقول كلمتنا ونبقى ونظلّ نعمل من أجل تحقيقها وانتشارها ونبذل للناس من أنفسنا، وما بين سهولة التخلي في الأولى وصعوبة الثبات في الثانية يكون الامتحان الحقيقي.