قصة القرارات المثيرة التي أصدرها الرئيس محمد مرسي يوم الأحد الماضي (12/8) لم ترو بعد. حتى أخشى أن تطوى صفحتها دون أن نعرف ملابساتها، مثلما حدث مع قصة الأيام الخمسة التي سبقت إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية وأثارت لغطا لا يزال البعض يلوك خباياه إلى الآن. وفي غيبة أية رواية رسمية لما جرى يوم الأحد. وإزاء تعدد الحكايات حول خلفية القرارات التي صدرت، لم يكن هناك مفر من بذل جهد خاص من جانبي سواء في تحرى معلومات الحدث الكبير، أو في قراءة دلالاته وتداعياته. في تحرير ما جرى، أزعم أن قرارات الرئيس مرسي كانت بمثابة انقلاب على انقلاب 17 يونيو، والأخير سعى إلى تكريس دولة العسكر وتشديد قبضة المجلس العسكري على الوضع المستجد، مع إضعاف رئيس الجمهورية المنتخب. وهو ما يعد خطوة إلى الوراء، أما الانقلاب الناعم الذي رتبه الرئيس محمد مرسي فقد أنهى مشروع دولة العسكر، وأرسى الأساس المرجو لإقامة الدولة الديمقراطية المدنية التي لا وصاية لأحد عليها. ولذلك أزعم أنها بمثابة حركة تصحيحية أحدثت نقلة مهمة إلى الأمام. لا يكفي أن نصف ما جرى بأنه انقلاب ناعم، لكننا لكي نوفيه حقه ينبغي أن نعترف أيضا أنه رتب بإحكام اتسم بالذكاء وحسن التدبير، وتم إخراجه بصورة مشرفة ورصينة، حتى بدا وكأنه إنجاز لجراحة خطيرة أجرتها أيد ماهرة. بمشرط ناعم حقق المراد بمنتهى الأمان والهدوء، دون أن تسيل قطرة دم واحدة. حصيلة الجهد الذي بذلته في التحقق تمثلت في المعلومات التالية: - إن رئيس الجمهورية أدرك أن المستهدف من الإعلان الدستوري الذي صدر في 17 يونيو، ومن الخطوات التي اتخذت بعد ذلك التي كان على رأسها التسرع في حل مجلس الشعب، وبدا من كل ذلك أن المطلوب إضعاف سلطة رئيس الجمهورية بحيث يصبح وجوده رمزيا، واستحواذ المجلس العسكري على السلطة في البلد. - لم يقبل رئيس الجمهورية بذلك الوضع، وعبر عن ذلك حين أعلن منذ اللحظات الأولى لتوليه السلطة أنه سيمارس صلاحياته كاملة. الأمر الذي فتح الباب لصراع مكتوم بين الرئيس المنتخب ورئيس المجلس العسكري الذي يستند إلى سلطة الأمر الواقع. ولأن الصراع ظل يدور تحت السطح فقد تصور كثيرون أن ثمة اتفاقا بين الطرفين على تقاسم السلطة فيما بينهما، في حين أن الأمر لم يكن كذلك. - أمضى الرئيس مرسي الأسابيع التي أعقبت توليه السلطة بعد حلفه اليمين في 30 يونيو الماضي في محاولة تثبيت أقدامه والتعرف على موقعه الجديد الذي يعمل به 12 ألف موظف، وخلال تلك الفترة فسر صمته باعتباره ضعفا ورضاء بالوضع الذي فرض عليه، وهو ما شجع بعض الأبواق والمنابر الإعلامية على التطاول عليه والحط من شأنه. ولم ينتبه أحد إلى أن الرجل خلال تلك الفترة كان يعزز موقعه وينتظر اللحظة المناسبة لانتزاع كامل صلاحياته. - عرفنا الآن أن المجلس العسكري لم يكن على رأي واحد في بعض القضايا، وأن ثمة تباينات بين أعضائه، دفعت بعضا منهم إلى تقديم استقالته من المجلس، ودفعت آخرين إلى الإعلان عن عدم رضائه عن عدد من القرارات والسياسات المهمة التي اتبعت. وكانت العلاقة مع الرئيس محمد مرسي أحد الموضوعات الخلافية داخل المجلس. فمن الأعضاء من تفهم موقفه ودعا إلى احترام الإرادة الشعبية التي انتخبته، ومنهم من كان له رأي آخر. وكان الرئيس على دراية بذلك. - كانت صدمة قتل 16 جنديا وضابطا في رفح هي الكاشفة والقاصمة. إذ بدت دليلا على أن ثمة تراخيا من جانب القوات المسلحة صرفها عن مهمتها الأساسية. عندئذ وجد الدكتور مرسي أن الفرصة سنحت لتجديد شباب قيادة القوات المسلحة (المشير طنطاوي عمره 80 سنة)، وفي الوقت ذاته أدرك أنها لحظة مناسبة لحسم الوضع المعلق في علاقته بقيادة المجلس العسكري. - صباح يوم الأحد كان الرئيس قد رتب أمره مع بعض المعنيين واتخذ قراره الأهم. إذ أقال وزير الدفاع ورئيس الأركان، وعين مدير المخابرات الحربية وزيرا للدفاع وقائد الجيش الثالث رئيسا للأركان. كما قرر ترفيع أربعة آخرين من أعضاء المجلس العسكري. وبهدوء شديد استدعى وزير الدفاع الجديد لكي يحلف اليمين قبل إذاعة الخبر، وطلب منه التوجه على الفور لاستلام مهامه. ثم استدعى المشير طنطاوي والفريق عنان واللواء محمد نصر مدير الشؤون المالية بالقوات المسلحة. وفي لقائه معهم أبلغهم الرئيس بقراره الذي فوجؤوا به. وفي اللقاء سأله اللواء نصر عما إذا كانت الإقالة تشمله أيضا، فأبلغه الرئيس أنه باق في منصبه وطلب منه أن يعرض عليه أمام المشير والفريق عنان موقف الأرصدة المالية للقوات المسلحة، فيما بدا أنه «إثبات حالة» تسليم وتسلم في وجودهما. - معلوماتي أن المشير تغير وجهه حين سمع قرار الرئيس وكذلك الفريق عنان، وفي حين أن الأول ظل على هدوئه، إلا أنه عبر عن استيائه بعد خروجه وسُمع وهو يقول إنه لم يكن ينتظر ذلك، فإن الثاني التزم الصمت ولم يعلق بشيء. وكان الرئيس قد أحاطهما علما في اللقاء بأنهما سيكرمان وسيعينان مستشارين له، بما يضمن لهما خروجا مشرفا ومطمئنا. - فهمنا أن رئاسة الجمهورية والقيادات العسكرية الجديدة كانت في حالة ترقب طوال الليلة الأولى التي أعقبت إعلان القرارات، تحسبا لأية ردود أفعال. وعندما طلع نهار اليوم التالي اطمأن الجميع إلى استقرار الموقف، ومن ثم عاد دولاب العمل إلى دورانه الطبيعي كسابق عهده. ليست هذه هي كل القصة، لكنني أرجو أن تكون نهايتها.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.