حجُّ الكثيرِ مِنَ الناسِ ليس إلا سياحةً محضة. فتراهم يحجون العام بعد العام، ولا أثر لشعائر الحج العظيمة في أخلاقهم وتصرفاتهم. وإنما يزدادون بُعْدًا عن مكارم الأخلاق وعن السلوكِ الحَسَنِ، وترى معاملاتهم مع الناس محكومة بغمط حقوق الخلق وبخس الناس أشياءهم. يومًا بعد يوم أزداد قناعة أن فريضة الحج فقدت روحانيتها وصارت سياحة يقوم بها الأغنياء للأكل والشرب والنزول في الفنادق الفاخرة والسفر في الدرجة الاولى في الطائرة وتنزيل الصور على وسائل التواصل الاجتماعي. أيها الاغنياء السوّاح في ارض الحجاز، لا حج لكم وأخلاقكم لا تسمو وتعاملاتكم لا ترتقي ولا إثر للنبل وللكرم في نفوسكم.
لقد وضعت حضارة السوق يدها على الحجّ، وجعلت منه فرصة هائلة لمراكمة الأرباح الطائلة، بدءًا من شركات السفريات والسياحة والوسطاء في البلدان التي يفد منها الحُجّاج وانتهاءً بالبلد الذي يستضيف ضيوف الرحمن في موسم الحج، في آخر شهور العام الهجري، وعلى امتداد العام في زيارات العمرة. وكثيرٌ من المشايخ والعلماء جعلوا من سفريات الحج صنعة تدرّ عليهم الربح الوفير، وصار اهتمامهم بتفاصيل الرحلة، من وسيلة النقل إلى الفندق ووجبات الطعام، صار هذا الاهتمام بالشؤون الدنيوية أعظم شأنًا من شعائر الحج ومغازيه ودروسه الأخلاقية العظيمة.
وبعيدًا عن غاية الحج العظيمة ومعانيه الروحانية العميقة، فإن حجّاج زمننا قد تركوا للرياء والسمعة نصيبًا مفروضًا من شعائرهم بين الإحرام والطواف والسعي والإفاضة وعرفات والجمرات. وفي زمن وسائل التواصل الاجتماعي، فإن من النادر ألا يسعى الحاجّ لنشر تفاصيل أدائه لخامس أركان الإسلام على الملأ. وهكذا صارت وسائل التواصل الاجتماعي تحتلّ مكانًا بارزًا في مواسم الحجّ، وصار الحُجّاج يتنافسون في نشر صورهم في مكة المكرمة. وصار الاهتمام بأن يعلم الناس بحج الحاجّ أكبر من الاهتمام بما ينبغي للمؤمن أن يتعلمه من خلال أدائه لهذه الفريضة الاسلامية.
بعد أن صار دم المسلم أقل حرمة من دم الأضاحي التي تقدّم في يوم النحر، فكيف يستطيع علماؤنا ومشايخنا، فضلا عن جمهور المسلمين، أن يدّعوا أن الأمة بخير وأن الحج يُنتَفَعُ به
وإزاء ما أصاب الحج، فريضةً ومناسكَ ومعاني سامية تتجاوز العبادات وتُعْلي من شأن التضحية في المنظومة القِيَمية، تقف التساؤلات والاستفسارات حول أسباب ومصادر هذه النكبة التي ابتُلِيَ بها الإسلام والمسلمون. ومهما حاولنا أن نجدّ في بحثنا وأن نجتهد في تقديم تفسير منطقي وتحليل تقويم لما أصاب الحج، فإننا لا يمكن لنا أن نعفي من المسؤولية أولئك الذين آلت إليهم الأمانة والوصاية على الحرمين الشريفين وما يتبعهما من مناسك وشعائر وعبادات لها أن تحيي أسمى المعاني وأنبل القِيَم فيما لو مُورِسَتْ كما ينبغي لها أن تُمَارَسَ.
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: "أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (التوبة، ١٩). في هذه الآية نجد أن القيام على أمور الحجيج وعمارة المسجد الحرام لا تغني الفرد ولا الأمة شيئًا إن فُقِد عنصرا الإيمان والجهاد في سبيل الله. فالعمران الظاهر في المسجد والمطاف وكل مرافق الحَرَم لا تغني شيئا إن كان الباطن خرابًا يملأه حب الدنيا وزخرفها والنفور من الآخرة والارتعاد من ذكر الموت.
وماذا فعل القيّمون على أمور الحرمين والأوصياء عليهما في العقود الأخيرة من الزمن؟ إنهم تطاولوا في البنيان في أقدس بقاع الأرض وأكثرها حرمة على البسيطة، ومن أجل هذا قاموا بطمس ودفن معظم الآثار الإسلامية والمعالم التراثية الحجازية التي كانت تكسو مكة والمدينة بذلك الطابع الخاشع خشوع الملائكة حول العرش. فمراكز التسوّق والفنادق والمضاربات العقارية عاجزة كل العجز عن شحن الحجيج بتلك الطاقة الإيمانية التي تنبع من مكان نزول الوحي وبدء الرسالة الخالدة. والخلود إلى الدعة والراحة في الفنادق الفاخرة التي تحيط بالحرمين لا تتناسب مع روح مجاهدة النفس ورياضتها التي اتّسم بها الحج منذ فجر الإسلام.
وإن كان موسم الحج هو المؤتمر الإسلامي السنوي الأعظم، والفرصة الممتازة للمساواة بين الناس على اختلاف أعراقهم ومشاربهم وأحوالهم الاقتصادية والاجتماعية، فإننا لا نرى أي انعكاس لهذه الروح الإنسانية الجامعة في الممارسات التي تنتهجها حكومة المملكة العربية السعودية مع مواطنيها ومع رعاياها من المسلمين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. فالتمييز على الأساس العائلي والقَبَلي هو القاعدة، والمسلمون غير السعوديين محرومون من أبسط الحقوق التي يحصلون عليها في بلدان الغرب المسيحية بمعظمها.
أما الوزر الأكبر فقدان الحج لروحانيته فتتحمله الكثرة الكاثرة من علماء ومشايخ هذه الأمة بسكوتهم على الظلم وممالأتهم للظالمين وموالاتهم للمتجبرين والمستبدين والمستكبرين. فبعد أن صار دم المسلم أقل حرمة من دم الأضاحي التي تقدّم في يوم النحر، فكيف يستطيع علماؤنا ومشايخنا، فضلا عن جمهور المسلمين، أن يدّعوا أن الأمة بخير وأن الحج يُنتَفَعُ به كما ينبغي روحانيًا وإيمانا إلى جانب الارباح المادية الطائلة التي تُجنى من موسم الحج؟
إن ما أصاب الحج في صميم غايته وأهدافه ليس إلا انعكاسًا للوهن الذي أصاب الأمة الإسلامية باستفحال الظلم والاستبداد فيها. فالتضحية الحقيقية ليست ما يُنحر من بهيمة الأنعام، وإنما ما يُنحَرُ من هوى الأنفس وشهواتها الهدّامة وأَثَرَتها الفتّاكة. ولعلماء المسلمين ومشايخهم ومثقفيهم الدور الأكبر في إسباغ الروحانية على الحج كما على سائر العبادات، وفي مقاومة الظالمين بالكلمة والفعل والإرادة. فعلى عاتقهم تقع مهمة إحياء الروحانية المفقودة في الحج كما في سواه من شؤون ومناحي ومناهج الإسلام.