بتاريخ 14/10/2018 تم نقلي من سجن الشارون إلى سجن الدامون، كانت الأسيرات (الأمنيات) الفلسطينيات في ذلك الوقت موزعات بين هذين السجنين، فيما كان الشارون هو السجن المركزي للنساء، في الليلة السابقة أبلغتني ممثلة الأسيرات في سجن الشارون (ياسمين شعبان) بقرار النقل، جاءت إلى باب غرفتنا وعيناها دامعتان (رغم أن علاقتنا لم تكن قد توثقت بعد)، توقعتُ الأمر فقلت لها: أرجو ألا يكون الخبر الذي لا أتمناه! قالت لي: "بلى، غداً سينقلونك إلى سجن الدامون". ثم أعطتني حقيبة لأضع أغراضي فيها.
كتبتُ كثيراً للأسيرات في تلك الليلة، وخصوصاً بنات غرفتي، لأنني كنت أحسبه آخر عهد لي بهن، وما كنت أعلم يقيناً أننا سنعود لنجتمع كلنا في سجن الدامون، وسيصبح هو سجن الأسيرات الفلسطينيات المركزي. ثم سهرنا لنسترجع ذكرياتنا على مر شهرين إلا قليلا، هي مدة مكوثي في سجن الشارون، بعد الانتقال إليه من سجن عسقلان.
صباحا، ودعت صديقاتي، خصوصاً إسراء لافي وصفاء أبو سنينة ودينا سعيد وسونيا الحموري، وبنات غرفتي شروق دويات وجيانا الحياوي وملك سلمان، عند باب القسم عانقتني ياسمين مودعة، وطلبَتْ أن أسامحها إن بدر منها تقصير تجاهي خلال المدة الفائتة، قدرتُ لها موقفها كثيرا، وظللتُ أحمله معي، وقلت لها: "آخر ما كنتُ أتمناه الانتقال من هنا"، كانت مفارقة غريبة، هذا السجن كرهته وكرهتُ الانتقال منه، ربما لأنني لا أحب مغامرة الأماكن المجهولة، وإذا كان المجهول سجناً فإن استثقال النفس له يكون أكبر.
على عكس كثيرين، فإن فصل الخريف يمنحني طاقة غريبة للتفاؤل، وحب التأمل، والنظر بإيجابية لكثير من الأشياء. لذلك ربما لم أستثقل يومها رحلة النقل في سيارة نقل السجناء (البوسطة) رغم صعوبتها، مكثتُ طويلاً وأنا مقيدة اليدين والقدمين في تلك الحجرة الحديدية التي أقلّتني إلى الدامون، توقفنا طويلاً في سجن (لعله الرملة)، لإنزال وحمل سجناء آخرين، ثم استأنفت السيارة رحلتها.
أنفقتُ وقتي في قراءة القرآن والدعاء، والترنم بأنشودة (أخي أنت حرّ وراء السدود)، كان لها مذاق خاص حينما أنشدها وأنا مقيدة، لذلك ظلت رفيقة تنقلاتي العديدة في (البوسطة) لاحقا، أحسستُ أنني سرتُ مسافة طويلة بين السجنين، أتيح لي خلالها أن أراقب مظاهر الخريف من ثقوب سيارة (البوسطة)، كانت هناك أشجار دائمة الخضرة على جبل الكرمل لا يغير حالها خريف أو شتاء، كان المشهد وحده – رغم أنه مجتزأ- كفيلاً بحملك على أن تتنفس فلسطين من أعماقك فلا تعود القيود بعدها شيئاً ذا قيمة وهي تكبّل يديك ورجليك، لتلك الخضرة الممتدة سلطة نفسية قادرة على اختراق العظام وتفتيت السلاسل وتخدير وجعها، وعلى زرع البهجة في أعماقك أمداً طويلا، وعلى مدّك بجرعات إضافية من الصبر والتجلّد والسكينة والعنفوان.
مررنا على نصب تذكاري لحريق جبل الكرمل الذي حدث عام 2010، وقتل خلاله نحو أربعة وأربعين شخصاً معظمهم من سجاني وحراس سجن الدامون، الذي أذهب إليه، وهو السجن الذي تم إخلاء الأسرى والأسيرات منه عام 2016، بعد حريق آخر. لم تكن الحرائق قد خلفت أثراً باديا، بعد مرور عامين على الحريق الأخير، على الأقل هذا ما بدا لي من خلال الثقوب الصغيرة، قلت في نفسي إن شموخ جبل الكرمل وإرادة النماء فيه أكبر من عمر محتليه.
ولكن هل تراه سهلاً الشعور بالانتماء إلى هذا الجبل الفلسطيني، وتأمل لوحته الجمالية بإجلال، وأنا أُساق لأكون معتقلة في سجن فيه؟! وفيما اللافتات العبرية تشوه كل دروبه ومنعطفاته؟ ربما من الجيّد أننا في السجن لا نشاهد شيئاً من آثار هذه الطبيعة الساحرة، رغم أن السجن فيها، ولا تتراءى لعيوننا إلا ألوان الجدر الإسمنيتة والأسلاك الشائكة. لعلّ هذا يمنع حالة التآلف مع المكان أو الشعور بالأنس فيه، وما أثقل أن يألف السجين زنزانته، أو يشتاق إليها إن خرج في رحلة نقل طويلة ومرهقة إلى المحكمة.
غادرتُ سجن الشارون إلى الدامون، وكنتُ أديمُ النظر خلفي، حين يأخذني الشوق لمن غادرتهنّ من صديقاتي، أو لكي أحاول إدراك الفروق بين ظروف السجنين، أو لرصد طبيعة حالي هناك وهنا، وكيف عشتُ هنا في عالم مختلف، كان يبدو أكثر رحابة وتلقائية ودفئا، رغم حداثة معرفتي بمعظم من التقيتهنّ فيه، كان هذا الشعور يجدد الشغف بكثير من الأشياء والمعاني، دون إبصار السبب، مثلما سيكون هذا المكان فرصة للتعافي من كثير مما علق في القلب في كدر وهموم، إلا الاشتياق للأبناء والأحبة، فلا سبيل للتعافي منه، هل كان السبب في المكان أم في الوجوه التي تعيش فيه، أم في الانتقال نفسه؟.. لستُ أدري!