أثار هبوط أسعار الذهب العالمية، تساؤلات حول حجم الخسائر التي تكبدتها مصر لقيمة ما اشترته من كميات كبيرة من المعدن الأصفر قبل 4 أشهر.
ومنذ آذار/ مارس الماضي فقد سعر الذهب أكثر من 300 دولار من قيمته، إذ اتخذ اتجاها نحو الهبوط من معدل أكثر من ألفي دولار، ليصل سعر أونصة الذهب بالأسواق العالمية الأيام الماضية لمستوى 1738 دولارا، ما يعني خسارة كبيرة لمصر.
وخلال تعاملات جلستي الثلاثاء والأربعاء، تكبدت أسعار الذهب خسائر فادحة مسجلة 1738.2 دولارا للأوقية، إذ انخفض سعر أونصة الذهب الواحدة خلال تعاملات اليومين بنحو 100 دولار أمريكي دفعة واحدة، وفقا لرويترز.
وفقد الذهب أكثر من 300 دولار، منذ أن بدأ مجلس الاحتياطي الفيدرالي في رفع أسعار الفائدة في آذار/ مارس الماضي، للسيطرة على التضخم، مما يرفع تكلفة حيازة السبائك التي لا تدر عوائد ثابتة.
ورفع الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة إلى 75 نقطة منتصف حزيران/ يونيو الماضي، إلى جانب توقعات رفعها مجددا وللمرة الرابعة خلال العام الجاري.
ووفق مراقبين، فإن تراجع أسعار الذهب لتقترب من أدنى مستوى في 7 أشهر، يأتي متأثرا بقوة الدولار وحلوله محل الذهب حاليا كأثر الملاذات الآمنة خاصة مع صعود العملة الخضراء لأعلى مستوى لها بـ20 عاما، ما أثر على سوق المعدن النفيس عالميا.
"ماذا عن مصر؟"
ما يهم مصر هنا في هذا الانخفاض المتسارع لأسعار الذهب عالميا، هو أن البنك المركزي المصري كان قد اشترى 44 طنا من الذهب خلال شباط/ فبراير الماضي، ليصبح أكبر مشتر للمعدن الأصفر وسط البنوك المركزية العالمية خلال الربع الأول من العام الحالي، وفق تقرير مجلس الذهب العالمي.
ورغم أن مشتريات القاهرة من الذهب رفعت إجمالي ما يملكه البنك المركزي من ذلك المعدن بنسبة 54 بالمئة ليبلغ مخزون الذهب 125 طنا، يعادل 17 بالمئة من إجمالي الاحتياطيات المصرية، لكن يبدو أن للقرار تبعاته السلبية.
ولأن قرار الشراء ذلك جاء وسط حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية 24 شباط/ فبراير الماضي، والتي أضرت بأوضاع الأسواق المصرية والعالمية، وفي وقت هروب نحو 20 مليار دولار من الأموال الساخنة من السوق المصرية، فإن لذلك كله تبعات.
وأثار القرار حينها استهجان محللين وخبراء، إذ تساءلوا عن مصير كل تلك الكميات لو انخفض سعر المعدن الذي لا يدر أموالا، متوقعين تراجع سعر الذهب مع تواصل رفع الفيدرالي الأمريكي سعر الفائدة، ومع احتمالات انحسار الحرب الروسية الأوكرانية.
وهي المخاوف التي تحققت الآن، إذ اشترت مصر الذهب في قمة سعره العالمي، وحينها أكد تقرير للبنك الدولي أن أسعار الذهب شهدت ارتفاعا عالميا بنحو 3 بالمئة في 2022، بعدما كسر سعر الأوقية حاجز ألفي دولار.
وكشفت بيانات مجلس الذهب العالمي في أيار/ مايو الماضي، حلول مصر بالمركز 33 عالميا بين 40 دولة ضمها التقرير، بكمية 125 طنا تمثل نحو 19 بالمئة من احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي المصري، فيما تنتج البلاد 16 طنا من الذهب سنويا، من منجم "السكري" وغيره.
"ضمن القرارات الخاطئة"
وفي تقديره لحجم خسارة مصر من تراجع أسعار الذهب عالميا وشرائها 44 طنا بأعلى أسعاره العالمية، قال الخبير الاقتصادي المصري، عبد الحافظ الصاوي: "للأسف الشديد ومن المعروف أن الذهب من سلع المضاربة".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أكد أنه "كان على متخذ القرار بالبنك المركزي المصري أن يُقبل على شراء الذهب في أدنى أسعاره وليس في أعلى أسعاره".
الكاتب والباحث الاقتصادي المصري، لفت إلى أنه "مع كل شهر يتم تقييم احتياطي النقد الأجنبي ويتم بلا شك رصد هبوط قيم الاحتياطي الأجنبي بنسبة الهبوط الموجودة في مكون الذهب من احتياطي النقد الأجنبي الموجود بالبنك المركزي".
وأوضح أن "الأمر الآخر المتعلق بقرار الشراء هو أنه مفترض اعتماد متخذ القرار على إجراءات فنية وتحليل مالي لوضع الذهب هبوطا وصعودا وارتباط السوق بالأوضاع الاقتصادية والسياسية العالمية والإقليمية".
وتابع: "وبالتالي فإن قرار مصر شراء الذهب في ذلك التوقيت يأتي في إطار حزمة من القرارات الخاطئة التي تتخذها الحكومة المصرية في ظل أزمتها المالية المعروفة، وفي ظل مديونيتها المرتفعة".
وأكد الصاوي، أن "كل هذه القرارات تدلل على أن الإدارة الاقتصادية تسير في الاتجاه الخطأ، ولذا لا بد من تغيير المسار والرؤية لاقتصاد يعتمد على الإنتاج وليس على الريع بأي شكل من الأشكال".
"اقتصاد مسموم"
وفي رؤيته قال المستشار السياسي والاقتصادي الدولي حسام الشاذلي: "كما أذكر دائما منذ أن طرحت مفهوم الاقتصاد المسموم نهاية ٢٠١٨، كنموذج جديد، ظل النموذج المصري هو الحالة الدراسية لهذا المفهوم".
الشاذلي الذي يرأس جامعة "كامبردج المؤسسية" بسويسرا، أضاف لـ"عربي21": "فقد أثبتت الشهور والأعوام بأن نموذج الاقتصاد المسموم هو النموذج الأفضل لفهم المنظومة الاقتصادية المصرية؛ فنحن نرى دائما أن القرارات الاقتصادية بها تميل دائما للتركيز على الاقتصاد الكلي".
وأوضح أن "الاقتصاد الكلي هو الذي يتعامل مع المؤسسات الدولية والمجتمع الدولي ليرسل رسائل مخادعة عن الحالة الاقتصادية المصرية، بينما يتجاهل الاقتصاد الجزئي الذي يتصل بمؤشرات جودة الحياة والبنية التحتية وحياة المواطن".
"استراتيجية مدمرة"
ومن هذا المنطلق، يرى الشاذلي، أن "قرارات شراء أطنان الذهب في شباط/ فبراير الماضي في ظل أعلى أسعاره هو جزء من تلك الاستراتيجية المدمرة".
وتابع: "وتأتي في ظل المناقشات الجديدة مع صندوق النقد الدولي حول قرض جديد قد يصل 3.5 مليارات جنيه، وفي ظل الشروط الأكثر تعقيدا ومطالب الصندوق بالتوقف عن التلاعب بالفائدة وزيادة مستوى الشفافية فيما يتعلق بالصندوق الأسود وميزانية المؤسسة العسكرية".
ويعتقد الخبير المصري أن "هدف شراء الذهب أن تتصدر مصر قائمة الدول المشترية له بالمنطقة، وتزيد كمية الذهب بالبنك المركزي بصورة ملحوظة للجميع، رغم التضارب مع تقارير النظام عن زيادة إنتاج الذهب محليا من منجم السكري والصادر عن البنك المركزي".
وأضاف: "أضف لذلك أن التقارير المتتابعة عن سوء حالة الاقتصاد، والفشل المتوالي بجذب المستثمرين الأجانب، وأجراس الخطر حول العملة والاقتصاد المصري تتطلب تلك الحقنة المسكنة الزائفة لزيادة احتياطي الذهب بصورة غريبة بوقت غريب".
الشاذلي، أعرب عن أسفه من أن "القائمين على المنظومة الاقتصادية يتعاملون مع المعطيات بطرق بدائية عقيمة لا علاقة لها بحرفية الاقتصاد العالمي، تركز على التلاعب بمفردات المنظومة والبنك المركزي أمام المؤسسات الدولية، وإرسال رسائل كاذبة للشارع عن نجاح النظام".
وأكد أنه "لا يخفى على أحد أن هبوط سعر الذهب في نيسان/ أبريل وأيار/ مايو الماضيين، كلف مصر خسارة باهظة بسبب قرار الشراء العشوائي".
"في حين انتفعت دول كثيرة من هذه الظروف لتزيد من احتياطات الذهب لديها مثل تركيا، التي تصدرت المشترين دوليا في أيار/ مايو الماضي بـ13 طنا، تبعتها أوزبكستان بـ9 أطنان وكازاخستان بـ6 أطنان وقطر بـ5 أطنان"، بحسب الشاذلي.
وأكد أنه في المقابل "اختفت مصر من المنظومة في ظل السعر المتهاوي ليجلس القائمون على اقتصادها على أطنان من ذهب خاسر مديون".
"طريق اللاعودة"
وخلص للقول إن "منظومة الاقتصاد المسموم المصرية استنفدت كل أدوات التلاعب بالفائدة والعملة والبورصة والقروض والمديونيات والسندات الحكومية والمشاريع العملاقة الهلامية، وتقود مصر لطريق اللاعودة. حيث لا فرصة للإصلاح إلا بسقوط المنظومة كلها سياسية واقتصادية حيث لم تعد سياسات الترقيع ذات فائدة ولم تعد تخدع أحدا لا في الداخل ولا في الخارج".
وفي السياق، تتراجع أسعار الذهب في السوق المحلية المصرية بشكل متسارع لتفقد نحو 300 جنيه من قيمتها التي وصلت نحو 1200 جنيه مصري لعيار (21) في آذار/ مارس الماضي، ليصل إلى نحو 920 جنيها الخميس، وسط ضبابية يشهدها السوق ومخاوف من الخسارة للتجار.
وأكد تاجر الذهب الحاج عبد الله، أن "سوق الذهب منذ أشهر يغلب عليه حالة الضبابية والمخاوف"، مشيرا في حديثه لـ"عربي21"، إلى أن "الحكومة لا تخسر ولا شك أنها ستحمل خسارتها من شراء الذهب على التجار والمستهلكين".
وتحدث بعض المستهلكين عن خسائرهم من شراء الذهب، مشيرين إلى أن الكثيرين توجهوا خلال الموجة التصاعدية منذ آذار/ مارس وحتى حزيران/ يونيو الماضيين لشراء الذهب بأعلى سعر شهدته البلاد وبأكثر من 1250 جنيها مع إضافة سعر المصنعية والدمغات، ولكنهم مع تراجع السعر خسروا نحو 300 جنيه في كل جرام.