ما زالت بعض القيادات الاسلامية تعيش في السحاب وتتعامل بمثالية وطوباوية شديدة مع تسارع الأحداث على الساحة الأردنية بل تستدعي في ذهنها سيرة السابقين أو حال اللاحقين في ثقافة المحنة والابتلاء دون قراءة للمشهد المحلي الخاص الذي لا نستطيع إلباسه ذات الثوب بكافة المقاسات، على فضل السابقين واللاحقين، ولكن الحكمة تقتضي ان نتفاعل مع خصوصية الحالة الاردنية وألا نزج بأنفسنا والاخرين نحو طريق مسدود ونحن نملك خيار شق جداول جديدة تحتفظ بقدسية الفكرة دون مناكفات الماضي وأخطائه وتقدم الاسلام منهج حياة وعمل لا مجرد عنوان ولافتة! في القرن الواحد والعشرين وبعد العمر الطويل للحركة الاسلامية وانجازاتها لم يعد من المقبول ان تنكفئ على نفسها او تنزل تحت الأرض او ترضى بالسجن والنفي والتضييق بعد ان وصلت للسلطة وقدمها الشعب في الانتخابات النزيهة، فأفرادها ليسوا نكرات بل لديها كتلة بشرية مميزة في العلم والخبرة والانجاز، كما انه من المرفوض تماما أن ينقض على انجازها فئة تلاقت اهدافها مع اهداف الحكومة بالانقلاب الناعم على الاخوان وتحجيمهم، وهذا ليس افتراء بل رأيا آخر، دراسة نشرها معهد واشنطن للدراسات وذكر فيها ان الاردن أصبح نموذجا في القضاء «السلمي» على الحركات الاسلامية وان سياساته اصبحت قابلة للتصدير للدول العربية الاخرى حتى ان قيادة الانقلاب في مصر تواصلت مع القيادي السابق في الجماعة كمال الهلباوي لاستنساخ النموذج الاردني في اصطناع جماعة اخوان تسير مع الحكومات والانظمة الحاكمة وبذلك يضعون تحت جناحهم هذه الجماعة التي شكلت لهم تحديا اشكاليا طوال سنوات! في الوقت الذي تعاملت الحكومة مع ملف الازمة الاخوانية بانحياز وصل حد التعاون والتسهيل للطرف المنشق لا يمكن اغضاء الطرف ان الجماعة كانت تعاني من مشاكل داخلية وتقصير واقصاء جعلتها في عين العاصفة عرضة لكل من يريد ان ينقض عليها ويأخذ حصة منها وكأنها مزرعة او حظيرة او شركة يمكن اقتسام اصولها وارباحها ومكتسباتها من فريق يظن أحقيته بالوراثة وفريق يظن شرعيته التي يلبسها لبوس الدين والواجب والولاء! ان كون الدعوة ذات مرجعة دينية لا يعني انها منزهة عن اخطاء البشر ولا يعني انها ستسلم من الكيد والمؤامرات، والاولى بالمطمئن الى حفظ الله لدينه ان يكون جاهزا ايضا لمواجهة كل من يكيد للدين، ليس مواجهة عنف بعنف، فالحكمة وتقدير المصلحة بل تجنب المواجهة احيانا وايجاد البدائل قد يكون عين التدبير والحكمة وخير الدعوات من تفتح الافاق للناس وتعلمهم، كما قال الغزالي «ان الحياة في سبيل الله كالموت في سبيل الله كلاهما جهاد مقدس وان الفشل في كسب الدنيا سيتبعه الفشل في نصرة الدين، ان السلبية لا تخلق بطولة لأن البطولة عطاء واسع ومعاناة أشد». ان مراعاة مصلحة الناس وحفظهم وعدم السماح باختطاف جهود سبعين سنة لا من الخوارج ولا الدواخل يجب ان يكون هدفا لكل من يرى في العمل الاسلامي حياة يخدم من خلاله الوطن والشعب بشرط ألا يكون ملتبسا برأي او عجب او مصلحة شخصية او مناكفة وثأر، فكم من حملة الفكرة في الظاهر هم أول من سددوا لها الضربات في الباطن، وكم نظر البعض لقدسية المبادئ وقلبوا ظهورهم عندما مُست شخوصهم ومكاسبهم! نعم الفكرة خالدة ومقدسة وباقية ليس بألفاظها، فالألفاظ كما يقول ابن القيم «لم تقصد لنفسها وانما هي مقصودة للمعاني.. فهي ليست تعبدية والعارف يقول: ماذا أراد، واللفظي يقول: ماذا قال» وما دام ذلك متحققا فلا بأس ان تلبس الفكرة أثوابا أخرى وعناوين أخرى فذاك من الذكاء المحمود الذي يلتف ويحبط جهود من يظنون ان الناس تبع لاسم أفقدوه بوجودهم فيه مضمونه حتى لو رخصوه واستولوا على املاكه فمسجد الضرار لا يصلح للصلاة ولو حمل اسم المسجد وبنائه! لا بأس ان تلبس الفكرة أثوابا أخرى ما دامت المنهجية ثابتة، ما دام هناك قاعدة مبادئ يربى عليها حديث العهد بالعمل الاسلامي ومن قلع أسنانه وابيض شعره فيه، هناك مبادئ لا يجب ان تكون قابلة للتغيير الا اذا كانت من المصلحة الشرعية وإلّا سيصبح العمل الاسلامي منفعيا وميكافيليا يتلون مع المتلونين ويميل مع الريح حيث مالت، العمل الاسلامي يجب ان تحكمه أنظمة ليس معها افضلية لمكانة او اسم او اعتبار ان شط صاحبها وحاد عن الطريق، وإلا سيتعلم الشباب أن كل شيء قابل للتغير وان لم يعجبهم ما يرون اليوم فبإمكانهم الانشقاق غدا وتكوين كيانات جديدة وبذا نكون ربينا الاجيال الجديدة على مزيد من الشرذمة والانشقاق والتشظي بدل الوحدة والتراكمية التي تحافظ على الافكار وتقدم لها مددا من العمر والخبرة والاستمرارية. مع كل جهد وفكرة ومبادرة بشرط ان اصحابها لم يتلوثوا بانشقاق ولم يكونوا اطرافا في نزاع فالبدء يحتاج الى طهارة وأسس صلبة واجواء نظيفة لا تعكرها الشبهات والنزاعات. أما اباؤنا الاوائل فرحمة بهذه الحرمة المسماة بالدعوة التي بذلتم من اجلها سنين ومالا وتضيحات فإني أكره ان يكتب في تاريخكم أنها صُفيت في عهدكم ايضا فالسوابق في هذا المجال خطيرة!! أترضون ان يكون هذا ميراثكم للاجيال من بعدكم؟ ما أصعب التفريط بالأمانة مع كِبر العمر ودنو الاجل وما اصعب ان يكون في سجلاتكم ان دعوة معمرة أدركها الاجل في وجودكم! لأجلها حيدوا آراءكم وشخوصكم فلستم وحدكم تحتكرون الحق وليس في مسائل الامامة واشكالها قطع ولا يقين كما يقول الجويني، فكثير من اخوانكم محقون ما لم يتلوثوا بانشقاق وكل هؤلاء يجب الاستماع اليهم والعمل معهم فهم لم يجتمعوا على ضلال.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.