ليست المرة الوحيدة أو حتى الألف التي تسقط فيها سقوف عمارات على البشر وتتحول إلى توابيت حجرية، ليس بفعل زلزال أو قصف في حرب، بل بسبب آخر تماماً، هو رداءة البناء والغش في مواده وهندسته، وقد ينجو بعض الناس من زلزال لكنهم قلما ينجون من سقوط عمارة صدعها الزمن وفقدت الصلاحية للسكن، لكأن العرب ينقصهم سبب كهذا للموت، والمسألة ليست في محاسبة طرف عقاري مسؤول عن الجريمة، لأن هذا القصاص رغم تكراره لم يردع متعجلي الربح السريع، والذرائعيين الذين تبرر غاياتهم التجارية كل الوسائل، حتى لو كانت إحدى هذه الوسائل قبراً جماعياً لمئات الناس . القانون رادع لا خلاف عليه، لكن الخوف منه لا يكفي كابحاً لنزعة العدوان أو الاستخفاف فإن لم يكن هناك كوابح أخلاقية وذاتية فإن التسلل خارج القوانين يبقى متاحاً لمن لا يردعهم شيء . والعرب الذين يسافرون إلى عواصم العالم لا بد أنهم شاهدوا إذا توفر لهم فائض من الوقت خارج التسوق بنايات عمرها قرون، يجري ترميمها بين وقت وآخر كي تقاوم عوامل الزمن والتقادم الذي لا يسلم منه حتى الحجر، رغم أن الشاعر العربي تميم بن مقبل تمنى لو أنه حجر كي ينبو الحوادث عنه وهو ملوم . والتوابيت الحجرية على ما يبدو نوعان، نوع يسقط ويسحق البشر بسبب شيخوخة العمران وإهماله، ونوع آخر وهو الأخطر يسقط رغم عدم مرور أكثر من عام أو عامين على إنشائه، لأسباب منها التحايل على شروط البناء والتواطؤ مع القائمين على تصميمه وهندسته، وبعض العواصم العربية باتت مهددة بالنوعين معاً، لأن عمرانها شاخ، والجديد منه لم يلتزم بأصول البناء وشروطه، وهناك معالم حضارية وثقافية في عالمنا العربي أزيلت لأسباب تجارية خالصة، رغم أنها ممهورة بتواقيع وبصمات رجال ونساء من الخالدين، ويشعر المرء بالأسى على سبيل المثال فقط عندما يرى بيت شهد أهم التحولات السياسية والاجتماعية طوال عقود وقد تحول إلى برج من الأسمنت، وتكرر هذا المشهد في عواصم عربية عدة، بحيث أصبح ظاهرة لا تدعو إلى الاستنكار أو الدهشة . وذات يوم خرج أبرز مثقفي فرنسا في مظاهرة من أجل فندق صغير من طابقين بيع لمستثمر عقاري أراد تحويله إلى عمارة شاهقة، ذلك لأن أحد رموزهم الثقافية أقام لفترة قصيرة في ذلك الفندق . فهل ضاقت الدنيا على سعتها ولم يبق سوى هذه المعالم كي تزال وتحول إلى غابات من الاسمنت والحديد؟ ولا ندري ما هو الفارق الجوهري بين من يشهر رشاشه في الشارع ويقتل بشكل عشوائي عشرات الأشخاص وبين من يبني قبراً جماعياً لمن يتورطون في الإقامة فيه؟ والأعجب من كل هذا أن مثل هذه الجرائم لا تحظى باهتمام أحد، فما أن تزال الأطلال وبقايا الركام حتى يسدل الستار على المشهد رغم أن لهؤلاء الضحايا أسماء وتواريخ شخصية، وهذا ما دفع كاتباً أمريكياً هو ثورنتون وايلدر كي يكتب رواية عن جسر صغير سقط وتسبب في إغراق ستة أشخاص فقط . إذ حاول بخياله وهاجسه الاخلاقي وحسه الوطني أن يتقصى حياة كل فرد من هؤلاء الستة . وفي عالمنا العربي الذي أصبح الموت فيه يومياً ومألوفاً وأقل إثارة للانتباه من نشرة جوية يموت مئات وأحياناً آلاف البشر ومنهم شيوخ ونساء وأطفال، سواء في سفن صدئت مفاصلها أو في قطارات أصبحت بحاجة إلى ما يجرها أو في عمارات سرعان ما تتحول إلى قبور . إن للتجارة حدوداً، بعدها يصبح دم البشر مباحاً وتختفي الروادع كلها . لهذا نقول لهؤلاء الذين استباحوا كل شيء: كفى هذا الوطن موتاً وانتهاكاً فلا تضيفوا إليه توابيتكم الحجرية .
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.