"وكأنها أمامي الآن ولا زلت أسكنها"، يتخيل اللاجئ الحاج أحمد عبد الله دغمان، نفسه وكأنها في قريته "الكفرين" قضاء حيفا. عشقه لبلده، دفعه لرسم "خارطة" لها، يقول "أوصيت بأن تكون ذكرى لأولادي وأحفادي، وفيها تضاريس الكفرين وأهل بلدي ومنازل عائلات: عبد الجواد، وسرحان، وأبو سريس، وصالح، وأبو النهيا، وغيرهم".
يتابع: "عندما هجرونا من قريتنا، ذهبنا إلى أم الفحم، وأقمنا في بيوت شعر، ولجأنا إلى قرية معاوية، ولما وصلناها صار اليهود يهدمون ببيوتها فخرجنا نحن وأهل معاوية معًا، ثم انتقلنا لمخيم جنزور غرب قبور الشهداء في بلدة قباطية، واليوم نحن هنا في الفارعة ننتظر العودة".
كلام الرجل عرض ضمن سلسلة "ذاكرة لا تصدأ"، التي خصصتها وزارة الإعلام في محافظة طوباس والأغوار الشمالية واللجنة الشعبية للخدمات في مخيم الفارعة للحديث عن شهادات وثقت بالصوت والصورة لحكاية اللحظات الأخيرة للنزوح عن القرى والبلدات المهجرة، بالتزامن مع السنوية الـ(68) للنكبة.
قهر صبارين
فيما يبوح سعيد محمد عبد الهادي بلحية بيضاء وتجاعيد عميقة، قائلا "أنا من صبارين قضاء حيفا، كنا نشتغل بالزراعة ونربي الماشية، ولما سمعنا عن مذابح دير ياسين وبدأت عصابات اليهود تهجم علينا خرجنا من البلد، وهذا ما حدث في السنديانة، وأم الشوف، وأم الزينات، وغيرها".
من رواية عبد الهادي، فقد لحقت العصابات الصهيونية أهالي صبارين، واعتقلوا 15 من رجالها وأوقفوهم صفًا واحدًا وأطلقوا عليهم النار. فيما عاد هو وأخ أحد الشهداء للبحث عن الجثث، فلما وصلا ليلًا، شاهدهم المحتلون من بعيد، واستنفروا للبحث عنهم، ولولا صعودهما على شجرة كبيرة لانضموا إلى من يبحثون عن جثامينهم.
ألم يافا
ويسرد محمد سعيد الخطيب بكوفية حمراء ووجه تكسوه لحية بيضاء، قصته، فيقول "أنا من سكان يافا، وولدت فيها عام 1936، وكان جدي يعمل في المحكمة الشرعية، ووالدي معلمًا في مدرسة النهضة. وكان الإنجليز يحضرون الشاحنات لتشجيعنا على ترك مدينتنا، ويقفون في صفين من "بيت شجان" إلى تل أبيب إلى صرفند، لكننا رفضنا الخروج".
كان الخطيب شاهدًا على معارك يافا، ونفاذ ذخيرة مقاتليها، وانضمام عدد من المتطوعين المسلمين من يوغسلافيا للقتال فيها إلى جانب المدافعين عنها. ومما لا ينساه الهجمات على ثكنات أبو كبير وتل الريش وسقوط العديد من الشهداء.
يضيف: شاهدت اليهود وهم يحملون رؤوس مناضلين مقطوعة، ويمشون في شوارع يافا والمنشية لتخويف الناس وإجبارهم على الرحيل.
أحزان أم الزينات
وتقُطر شهادة أحمد محمد أبو طربوش حزنًا، وهو يروي قصته: "ولدت في أم الزينات عام 1936، وعشت طفولتي قرب جبال الكرمل، ولا أنسى هجوم العصابات اليهودية علينا آخر الليل، ولم يكن في القرية أسلحة، وهرب الأهالي من شدة الخوف، وسمعنا كيف قتلوا الناس في بيوتهم بدم بارد".
فر أبو طربوش مع عائلته، ولما وصلوا قرية أم الشوف، راحوا يبحثون عن الماء، وحين اقتربوا من بئرها شاهدوا سبعة من عائلة دبور يسبحون في دمهم، ولم يسلم جملهم من الذبح.
قهر الفالوجا
ويبوح محمد صالح العرجا: ولدت في الفالوجا عام 1934، وكانت بلدتنا قريبة من المدن، وفيها بلدية وسوق تجاري كبير يعقد كل خميس (اسمه سوق البرّين). ولما وقعت النكبة ذهبنا إلى بلدة الدوايمة في يوم جمعة، ولما وصلنا سمعنا عن مذبحة وقعت في مسجدها قبل صلاة الظهر.
وبحسب العرجا، فقد حاصر الاحتلال بلدته ستة أشهر، وظلت دون طعام وشراب، وقاتل الجنود المصريون فيها طويلاً، وشاهد ابن عمه محمد صالح شحادة يموت أمامه بعد إصابته بشطايا قذيفة، وحاول انقاذه وظلت أمعاؤه تتحرك. ولا ينسى الجندي المصري الذي كان يأكل الحمص، قبل أن تصله قذيفة تفصل رأسه عن جسده.
مرارة حيفا
وتعود رابعة رشيد أبو يونس (توفيت في شباط الفائت) إلى حيفا فتقول: ولدت في 13 تشرين الثاني 1933، وسكنا حي الحليصة، وأقام جدي مسجدًا ومنزلاً، وكان بيتنا مقابل الهادار، وراح اليهود يطلقون النار على المسجد وكل من يدخل إليه أو يخرج منه، واستشهد الإمام.
تتابع: تعرض بيتنا قبل النكبة لهجمات الإنجليز بحثًا عن جدي، واعتقلوا والدي مكانه، وظلت أمي وقت النكبة بمفردها، وقررت أن نخرج، فذهبنا إلى يعبد في جنين، ولا أنسى حيفا وبيتنا وعائلتنا وبحرنا.
شهادات شفوية
بدوره، أشار منسق وزارة الإعلام في طوباس عبد الباسط خلف إلى أن "ذاكرة لا تصدأ" لم تكتف خلال السنوات الأربع الماضية بسرد لحظات الاقتلاع القاسية، بل تعدته للحديث عن المدن والقرى المدمرة وحياتها الاجتماعية، وأفراحها، وزراعتها، ومدارسها، ومواسمها، وأعيادها، ومهنها، وعائلاتها، وحكاياتها الشعبية، وبيوتها، وأسواقها، وأحزانها، وأطباقها.
وأضاف أن السلسلة المرئية تعد وثيقة، بخاصة أن خمسة من حُراس الذاكرة غيبهم الموت، بعد تسجيل شهاداتهم المحكية.