تكريس القدس اليهودية عاصمة لـ(إسرائيل)، ممارسة شطب حق العودة للاجئين، تغيير رئيسي خطير في المسجد الأقصى، مجزرة صهيونية إجرامية واسعة، عملية استشهادية توقع عدداً كبيراً من القتلى، وفاة أو استقالة عباس دون خليفة، مشاركة واسعة لقوى الأمن الفلسطينية في انتفاضة مسلحة، قمعٌ متزايد لأجهزة السلطة للانتفاضة الشعبية، وقف كلي لتمويل السلطة. نقاط تحقق بعضها يتعمق بعضها ويتزايد فرص تحقق إحداها أو جلها، والتي ستؤدي في النهاية إلى انهيار السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. بل أن البحث في أعلى الأروقة لدى الاحتلال حول "انهيار السلطة"، وعلى طاولة بينت وبشكل مستفيض نقاش محتدم وأراء متزايدة وأصوات ترتفع حول "انهيار السلطة" الوشيك وغياب عباس عن المشهد في ظل استمرار الوضع الحالي ليس من الواضح متى يمكن للسلطة الفلسطينية البقاء على قيد الحياة".
درج رئيس السلطة سابقاً على التهديد بحل السلطة وتسليم مفاتيحها ولم نعد نسمع ذلك حديثاً بل ذهب السيد عباس بعيداً في التشبث بالسلطة باعتبارها "إنجاز" لتتحول سلطة حكم ذاتي محدود إلى غاية ولا يقابلها سوى توفير أمن الاحتلال بعد أن كانت السلطة "وسيلة" وخطوة لإزالة الاحتلال وبناء الدولة، وربما التقريع المستمر دولياً وعربياً وفتحاوياً للرئيس عباس دفعه لهذا التراجع البيّن، ليتعاطى مع السلطة أنها "غاية المنى" بدلاً من الدعوة لعقد المجلس الوطني الفلسطيني وإعادة بناء منظمة التحرير كمرجعية وطنية صلبة تضم الشتات الفلسطيني مع قرار عاجل بوقف التنسيق الأمني.
منذ أحكمت جنازير دبابات شارون على المقاطعة في 2002م غدت السلطة بلا سلطة كما يقول حسين الشيخ، فالاحتلال يرتع معتقلاً وقاتلاً وهادماً للمنازل، وناصباً للحواجز ومغلقاً للمؤسسات والإذاعات في المناطق التي تقع ضمن تصنيف (أ)، علاوة على الإدارة المدنية للاحتلال التي استرجعت كثيراً من صلاحياتها عهد الاحتلال، ونشأ واقع استيطاني توسعي على الأرض يطرح نفسه خياراً وحيداً ممكناً نافياً وشاطباً مشروع "حل الدولتين" (الذي ترفضه إسرائيل عملياً)، والذي يعتبر المدخل الطبيعي لبقاء السلطة التي نشأت وفق فرضية تحولها إلى دولة وفق جدول زمني لم يصل منتهاه، الاحتلال بذلك لاغياً مبرر بقاء السلطة، وفاقم هذه المعادلة قرار ترامب بحذف القدس عن طاولة المفاوضات واعتمادها عاصمة (إسرائيل)، وضم الضفة الغربية التي ابتلعها الاستيطان, والسعي لشطب حق العودة مما مثل إعلاناً فجاً عن انهيار السلطة وسقوط حل الدولتين، وإلغاء أوسلو، وقتل حلم "مشروع دولة فلسطين". ما بين التنبؤ بسقوطها، والتحول إلى دولة، واعتبارها "دولة تحت الاحتلال"، والبعض يراها مشروعاً إسرائيلياً دولياً لتمرير صفقة، كان مشروع السلطة يتهاوى ويفقد الرهان عليه فلسطينياً، و(إسرائيل) تريدها محطة نهائية لسلطة وظيفية تعمل على مدار الساعة كمنسق أمني.
كل ذلك يشي بأن السلوك المؤدي إلى "انهيار السلطة" سلوك احتلالي بامتياز، مع رغبة "اسرائيلية" لا تخطئها العين بعدم رغبتها في تحمل مسئولية احتلالها بشكل مباشر، مما يدفعها إلى عدم الوصول إلى "حافة الهاوية" مبقية "سلطة ضعيفة عاجزة" بديلاً عن انهيارها، لذلك تسارع إلى منحها وأمريكا قبلة الحياة عبر أنبوب المال الأكسوجيني وسلسلة تسهيلات حياتية محدودة، أو عبر وعود سرابية جديدة بإحياء العملية السياسية، والاستمرار في مد السجاد الأحمر أمام قيادتها.
ويعضد هذا السلوك الإسرائيلي تقديرات أمنية يرتفع صوتها عبر "تقدير موقف" الذي قدمته الأجهزة الأمنية مطالبةً الحكومة الإسرائيلية باتخاذ تدابير ومبادرات لمساعدة السلطة خشية "الانهيار" الذي له تداعيات خطرة على (إسرائيل) سواءً أمنياً أو مدنياً، وفق هذا التقرير المعزز بإشارات هامة باستمرار التنسيق الأمني رغم تغول الإدارة الأمريكية السابقة والحالية كل بأسلوبه, وتغول استيطان الضفة و"انتفاضة القدس" والذي ساهم وفق الرواية الإسرائيلية بمنع أجهزة السلطة مئات العمليات، ويؤكد ذلك ماجد فرج وبعضاً من المسؤولين وتتباهى الأجهزة الأمنية الفلسطينية أنها منعت عمليات حساسة، محذرين من أن تطلق السلطة يد المنتفضين، فضلاً عن الخيار الأسوأ أن تضع السلطة ثقلها خلف الانتفاضة بالسماح لأفرادها بالمشاركة كما كان في "انتفاضة الأقصى 2000" والذي قد يؤدي إلى انتفاضة شاملة غير مسبوقة، أو وفق أضعف الإيمان الالتزام بقرار الإطار القيادي أو المجلس المركزي بوقف التنسيق الأمني، وقد يمثل هذا الخيار إعلاناً رسمياً من السلطة عن انهيارها.
ولكن يناقض أصحاب أجهزة الأمن الإسرائيلية بعض الأصوات داخل المنظومة الإسرائيلية بأن الانتفاضة ستندلع رغماً عن السلطة وأنها (السلطة) لا مبرر لوجودها طالما فقدت القدرة على القيام بدورها الوظيفي بتوفير الأمن للاحتلال عبر منع الانتفاضة، خصوصاً بعد أن أصبحت سلطتين، وتآكل نفوذها وهيبتها واختزالها في سلطة تنفيذية يجسدها شخص واحد، ومن ذلك لا يمكن الثقة (وفق رأيهم) بسلطة لا تمتلك مقومات البقاء الذاتي لأسباب أمنية واقتصادية وإدارية وسياسية، وأنها بحاجة إلى (حاضنة) بكل الأحوال ولا ضمان لاستمرار السلطة وقد تنهار لاحقاً وتؤول مقدراتها وخاصة السلاح والمؤسسات إلى أطراف معادية أو إلى الفوضى والفلتان.
والقراءة الإسرائيلية لانهيار السلطة الوشيك قد ينجم عن تصعيد الانتفاضة لدرجة لا تحتملها (إسرائيل)، أو لرحيل محتمل جداً للرئيس عباس ينجم عنه صراع داخل فتح، أو لتصاعد نفوذ حماس، أو لتراجع حاد في تمويل السلطة، وفي ظل الحاجة الإسرائيلية لبقاء سلطة وفق المقاس الصهيوني تواصل التعاون الأمني يهدد يعلون بتوفر البديل الفلسطيني بقوله "إن إلقاء مفاتيح السلطة سيجعل أيدي فلسطينية كُثر من فتح وغيرها مستعدة لاستلامها"، ولعل الكشف الإسرائيلي هذا يأتي في إطار صراع الوريث لرأس السلطة، والذي دفع الغدارة الأمريكية مطالبة عباس بتسمية النائب وفق بعض التسريبات, والذي يمثل غيابه أحد إرهاصات انهيار السلطة، ومطلوب أن يكون مفتاحها في يد تحفظ مشروع السلطة الوظيفية التي تحمي الكيان الصهيوني، في ظل مزاد الورثة الذي تضرم ناره (إسرائيل)، وفي ظل الخلافات الداخلية التي تعصف بفتح والتي خرجت إلى العلن عبر الفضائيات ولقاءات البث المباشر، ولقاءات التشريعي التي يغيب عنها برلمانيي فتح بشكل دائم وأغلبية التمثيل فيها لتيار دحلان.
دولياً مثَّل قرار ترامب باعتماد القدس عاصمة (إسرائيل) وخطواته المتسارعة لشطب حق العودة، وإعلانه الفج أن القدس لم تعد على طاولة التفاوض، وقرارات مجهزة بضم أجزاء من الضفة وتفريغ جوهر القضية من حيث جغرافيا قلب فلسطين (القدس والضفة) من محتواه، كل ذلك مثّل إعلان رسمي لشطب حل الدولتين وإلغاء أوسلو، وبالتأكيد أصبح انهيار السلطة الفلسطينية باعتبارها أحد أهم مخرجات أوسلو شبه وشيك، وما يمنع ذلك تشبث أصحابها ببقايا سلطة متهالكة لم تعد تمثل حلم الدولة وإنما غدت صورة مشوشة وغير صحيحة لحقيقة الفلسطيني المتشبث بحقه وأرضه والمقاتل حتى الرمق الأخير والذي جسدته أيام #سيف_القدس، وإنما تمثل السلطة كما زعم دايتون أنه صنع الفلسطيني الجديد، وتأتي الخطوات الأحادية لفرض الحل وفق رؤية نتنياهو_ترامب حتى في عهد بايدن الذي لا يدم أي مقاربة جديدة سوى تمسكه بمسمى حل الدولتين وليس بجوهره. ينسجم ذلك تماماً مع مشروع تصفية القضية الفلسطينية بشكل كامل وفق ما اصطلح عليه "صفقة القرن" على أساس من حل إقليمي يتجاوز السلطة ويرسل لها ورقة الطلاق الأخيرة.
في الوعي الفلسطيني فإن السلطة لم تحقق غاية وجودها وفق فلسفة "حل الدولتين" فضلاً عن أنها تكرست "كسلطة عميقة" منبتة عن "منظمة التحرير" التي شكلت الحاضنة للسلطة فضلاً عن حال المنظمة غير الصحي، مما رسخ الشعور المتزايد باليأس والإحباط منها. ومثلت الممارسة الأمنية للسلطة خاصة بعد جريمة قتل #نزار_بنات وفضيحة اللقاحات وإلغاء الانتخابات ومنع تجدد انتفاضة القدس المسمار الأخير في التعاطي الوطني مع السلطة وغدت صورتها مشوهة وخاضعة لرؤية آحاد تعاظم نفوذهم وتضاعف مالهم والتحقت السلطة بمصالحهم الذاتية بعيداً عن المصلحة الوطنية والإرادة الشعبية.
ومن زاوية أخرى كُبلت السلطة بفاتورة الرواتب لقطاع كبير من الموظفين والخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية، والتي ترد عبر الرئة الإسرائيلية (عائدات الضرائب والجمارك) والرئة الاشتراطية الدولية (أموال المانحين)، رغم تراجع الخدمات وعجز الموازنة وتغلغل الفساد وسوء الإدارة، مما يساهم في بقاء السلطة كضرورة، ويعزز الرأي هذا الخشية الخيار البديل سواء الفلتان أ والفوضى وسلطات أمراء الأمن المتصارعة.
من كل ذلك يمكن القول أن الوقائع على الأرض رسخت السلطة خياراً تتشابك فيه مصالح جميع الأطراف وربما حسب رأي البعض المصلحة الفلسطينية في هذه المرحلة قد لا تقتضي انهيار السلطة وانقطاع الخدمات وسيادة الفوضى وإنما وحسب رؤية وطنية صادقة إعادة الاعتبار للسلطة ووظيفتها ودورها وشكلها لتكون أداة وطنية بمرجعية واضحة والتي تمثلها منظمة التحرير بعد إعادة بنائها لتضم كافة أطياف وقوى الشعب الفلسطيني، وتمثل مرجعية حال قرر الاحتلال انهيار السلطة، وتتحول بذلك السلطة إلى حالة وطنية تخدم الحق الفلسطيني في التحرر والاستقلال وإقامة الدولة. وفي الجانب الآخر (إسرائيل) ومن لف لفها تسعى إلى تكريس مسمى كيان فلسطيني وظيفي حماية الحدود والتنسيق الأمني، وتقديم القرابين تزلفاً لرضا السيد المحتل.
دعوتنا اليوم الصادقة والواضحة إعلان نهاية حقبة أوسلو وانتهاء سلطة تنسيق أمني، وتدشين مرحلة وطنية جديدة تعيد للسلطة اعتبارها ككيان حاضن لفلسطينيي الداخل، وكذلك لمنظمة التحرير الفلسطينية كبيت وطني جامع للكل الفلسطيني يقود مشروع التحرير والخلاص من الاحتلال