من الواضح أن المتغيرات التي طالت المواقف العربية من الثورة السورية هي التي سمحت بمرور مهزلة المراقبين العرب على النحو الذي نتابعه منذ أيام، أعني المتغيرات التي أصابت المواقف العربية، وربما الأمريكية والغربية تبعا لحسم الموقف الإسرائيلي في تجاه الحفاظ على نظام الأسد الذي يشكل بقاؤه معادلة أفضل من رحيله بالنسبة لأمن الدولة العبرية التي باتت تتفق (إضافة إلى ذلك) مع عدد من الأنظمة العربية التقليدية التي تسعى بكل ما أوتيت من قوة لوقف مد الثورات العربية، لاسيما بعد أن أضافت تلك الثورات إلى مخاطر عدوى التغيير وصول الإسلاميين إلى السلطة. كل ذلك يصفع بقوة نظرية أبواق الأسد وشبيحته المنبثين؛ ليس في شوارع المدن السورية فحسب، وإنما في طول الإعلام العربي وعرضه، فضلا عن قوى وتيارات سياسية تحاول تبرير انحيازها إليه بالحرص على المقاومة والممانعة، فيما الحقيقة أنها تفعل ذلك لأسباب حزبية وطائفية ومذهبية وأيديولوجية، ربما باستثناءات محدودة لا تغير القاعدة العامة. منذ البداية تأكد أن قصة المراقبين العرب هي محض مهزلة تسعى إلى التقليل من بشاعة الجريمة التي يرتكبها بحق الشعب السوري، وإلا فأي منطق يبرر موافقة الجامعة العربية على الشروط التي وضعها النظام لتمرير دخول البعثة والشروع في تنفيذ برنامجها؟! بالله عليكم كيف لبعثة مراقبين تتحرك بحماية جحافل من ضباط الأمن السوري الأكثر حنكة وولاءً للنظام (تحت رقابتهم بتعبير أدق)، كيف لها أن تصل إلى حقيقة الوضع على الأرض بكل حيثياته التي تكشف بشاعة النظام ومستوى إجرامه؟! يعلم الجميع أن الرعب وحده ولا شيء غيره هو الذي يحول بين الملايين وبين النزول إلى الشوارع في سائر المدن السورية، بما فيها دمشق وحلب، ومن يعتقد أن هناك من أهل السنّة في سوريا من يؤيد النظام باستثناء حفنة لا قيمة لها في السياق العددي إنما يتجاوز الحقيقة ويفتئت عليها، مع أن تأييد الفئات الباقية للنظام ليس شاملا ولا محسوما بالكامل، أعني لجهة استعدادها للدفاع عنه حتى الرمق الأخير. ما يحول بين الناس وبين النزول إلى الشوارع هو انتشار الجيش في الشوارع وسياسة القتل بالتقسيط ومعها الاعتقال والتعذيب التي يتبعها النظام، إذا لا يستوي الناس في سائر الأمم والشعوب من حيث قابليتهم للتضحية بأبنائهم في صراع مع الأنظمة الدموية. المراقبون العرب يتحركون وفق برنامج يرتبه النظام من ألفه إلى يائه، ومن غير المستغرب تبعا لذلك أن تأتي الشهادات من النوع العادي الذي لا يدين النظام، بل إن نظاما من هذا النوع سيقوم (على الأرجح) بترتيب معارضين من نوع خاص يقدمون شهادات عادية، حتى لو كانت تنطوي على بعض الإدانة المتواضعة للنظام. من يجرؤ من الناس على التضحية بنفسه ومن تبقى من عائلته من أجل تقديم شهادة تدين النظام؟! إن أمرا كهذا يُعد أصعب بكثير من تنفيذ عملية استشهادية، لأن الأخيرة يضحي الإنسان من خلالها بنفسه، بينما يمكن للأولى أن تلقي بعائلة كاملة في فم (الأسد) ودمويته وبشاعة شبيحته. خلاصة القول هي أن مهمة المراقبين العرب بالطريقة التي نتابعها يمكن أن تغدو نجدة للنظام أكثر مما تنتصر للمسحوقين بنيران قمعه وجبروته، أو محاولة للكشف عن الحقيقة في سوريا. ولعل من قرأ تحقيقات بعض الصحف الغربية المحترمة سيدرك أي فارق بين أن يتحدث إنسان لصحفي أو مراقب وهو في كامل حريته، وبين أن يتحدث والمسدس مصوب لرأسه وروؤس ذويه. الجزء الثاني من مبادرة الجامعة العتيدة هو الأهم بصرف النظر عن تقرير المراقبين، اللهم إلا إذا خرج هؤلاء بتقرير كارثي يقول إن ما يجري هو حرب بين الجيش وإرهابيين ومندسين، ويبرر تبعا لذلك وجود الجيش في الشوارع، أما إذا تطلب الأمر إخراج الجيش من الشوارع والسماح بالتظاهر السلمي، فسيرى الجميع أية شعبية سيحظى بها النظام بين أبناء الشعب السوري. لقد بات واضحا أن على الشعب السوري أن يتجاوز حكاية الجامعة العربية ويعتمد على نفسه في إسقاط النظام، ورفض أية دعوة للتصالح معه، تماما كما فعل الشعب التونسي والشعب المصري، ولن يتم ذلك إلا بالاستعداد للمزيد من التضحيات التي تصل بالوضع حد العصيان المدني الشامل الذي يسقط النظام، وفي اعتقادي أن ما جرى حتى الآن قد أثبت حيوية الشعب السوري وجرأته وشجاعته، الأمر الذي يبشر بالانتصار خلال وقت لن يطول بإذن الله، وليتحمل المتواطئون مع النظام وزر الجريمة التي يرتكبونها برفع عدد الضحايا إلى رقم لا يعلمه إلا الله
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتخصيص تجربتك ، وتحليل أداء موقعنا ، وتقديم المحتوى ذي الصلة (بما في ذلك
الإعلانات). من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط وفقًا لموقعنا
سياسة ملفات الارتباط.